لا يمكن دائما أن نحمّل تلك الدول الاستعمارية وحدها مسألة وظاهرة الفقر والبؤس الإنساني، في دول نالت استقلالها الكامل، وباتت ثروتها القومية تحت مظلة حكمها وإدارتها. فماذا حدث لدول نامية تفرز كل يوم طوابير من الفقراء والبؤساء الذين وصفهم فيكتور هيجو ذات يوم بزمن «بؤس القارة وفقرها»؟

Ad

شاركت الإنسانية جميعها تحت شعار حملة «قف وعبر ضد الفقر» التي نظمتها الأمم المتحدة، وصادفت يومي 16 و17 أكتوبر، بهدف مكافحة الفقر وتخفيضه إلى النصف! ربما كانت الشعوب البدائية (الكانيباليين) منها، معذورة عندما وجدت في أكل لحم الإنسان مخرجاً لمعالجة جوعها وفقرها، إذ كان الغذاء من الندرة، وكان من المقنع أن تهاجر شعوب وجماعات بكاملها، إلى مناطق أخرى بحثاً عن الطعام عندما تصاب بجائحة المجاعة، ويصبح دافع الهجرة نحو الأرض البعيدة هو الجوع، الذي بات وباءً يهدد حياة البشر، يومها كانت كل حجة مقنعة للصراع والغزو والنهب من أجل ثروات غذائية تميزت بها شعوب تعيش عند الأنهار، وحضارات تمكنت من زراعة الحبوب، فصارت محط أنظار الكثير من الجماعات، الجائعة، والطامعة في الغذاء كجزء من السلع المطلوبة للسلم والحرب.

اليوم ما عاد بإمكاننا الاقتناع، في عصر تميز بالجشع والثراء الذي تعيشه حضارتنا، وبسلوكيات تلك النزعة الاستهلاكية المفرطة، والإهدار المتناهي للثروة بما فيها تلك الكميات الهائلة التي تُرمى في قمامات المجتمعات الأكثر غنى، والأوساط الأوفر معيشة بين تجمعات بائسة، دفعتها حالة التردي الاجتماعي إلى حافة الفقر. لقد عاشت الإنسانية منذ عهود بعيدة ظاهرة الفقر المدقع، فأنتجت هذه الظاهرة عصياناً وتمرداً وثوراتٍ وجرائمَ، وقد دفعت بالفقراء إلى تسلق جدران الأثرياء وتكسير مخازنهم، وتحويل المدن الهادئة إلى عالم من الشغب والنهب والعدوانية. فمن أين نبعت ظاهرة الفقر كظاهرة اجتماعية قديمة مع مجتمع الوفرة والانقسام الاجتماعي؟ وكيف وجدها علماء الاقتصاد والاجتماع؟ إذ وضعوا لها حلولاً جزئية وشاملة، ومنحوها رؤاهم الناقصة، فمنهم من جعلها ظاهرة بنيوية متلازمة مع طبيعة النظام الطبقي الرأسمالي، ومنهم من حاول كمالتوس في عام 1798 ربط أسبابها بموضوع تكاثر السكان مقابل القدرة على الإنتاجية وتوفير الغذاء في مقالته الشهيرة عن مسألة السكان.

تلك المتوالية الهندسية بين قلة وبطء إنتاج الغذاء مقارنة بالتزايد السكاني المتسارع، تنبئنا بكارثة محتملة! هذه النظرية بشؤمها الرأسمالي لم تمنع الأثرياء من مواصلة تغيير العالم نحو تحديث الإنتاج وتوفير مزيد من الغذاء، في وقت لم تستطع من الجانب الآخر التحكم في ظواهر عدة مرتبطة بالثقافات الإنسانية، التي لم تنجح في لجم مسألة تنظيم السكان، ومن الجانب الآخر لم ينجح المجتمع الدولي في محاولة توزيع الثروة إنسانياً بشكل عادل.

بين طرفي تلك المعادلة، أُتخمت أعداد قليلة وازدادت ثراء، وبوحشية متناهية في الجشع، إزاء تدهور أوضاع الكثيرين نحو الأسوأ معيشياً، فبدت حياة الملايين عرضة للجوع والفقر، مما وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته الإنسانية والأخلاقية. وإذا ما كان عمر المنظمات الدولية ودور المجتمع المدني محدوداً وقريباً، فإن إعادة النظر في اتساع حجم الظاهرة باستمرار يوقظ المجتمع الدولي المتراخي ويهز ضميره، فتبدأ الأجراس تقرع من جديد، مع أن المشكلة والظاهرة ليست جديدة وحديثة النشوء، غير أن دخول المجتمع الدولي في توافق وتعايش وتعاقد مع بعضه بعضاً فتح أبواباً كانت غائبة، مع أنها ظلت خلال أكثر من ستة عقود هي عمر منظمة الأمم المتحدة، عاجزة عن اجتثاث البؤس والفقر في العالم، نتيجة تباطؤ وتيرة الدعم وتراجع الحماس الدولي وتلاعب الأثرياء والدول الغنية في دعم الفقراء والدول الفقيرة، التي كانت عرضة للنهب والإفقار خلال مرحل تاريخية طويلة من الاستعمار والهيمنة. ولكننا لا يمكن دائما أن نحمّل تلك الدول الاستعمارية وحدها مسألة وظاهرة الفقر والبؤس الإنساني، في دول نالت استقلالها الكامل، وباتت ثروتها القومية تحت مظلة حكمها وإدارتها. فماذا حدث لدول نامية تفرز كل يوم طوابير من الفقراء والبؤساء، الذين وصفهم فيكتور هيجو ذات يوم بزمن «بؤس القارة وفقرها»؟ المسألة واضحة في الدول النامية، إذ تشير التقارير الدولية إلى حجم الفساد والسرقات وتدمير مصادر الثروة، وإهمال الإنتاج الزراعي والرعوي، وزحف المدن والعمران على الكتل الزراعية، وتحول ميزانيات الدول إلى العسكرة والأمن والنهب والحروب الأهلية وتراجع وتائر الإنتاج، وازدياد عدد العاطلين وانتقاص فرص العمل في نظام دولي جديد، يقضم من كل سمات المجتمع التضامني الإنساني ودوله الرعاية، فكان من المنطقي أن ندخل مجدداً في عنق الزجاجة وندور في حلقة الإفقار، التي تعرض لها العديد من الباحثين في العالم، وكما في كتاب جاك لو «العالم الثالث هل يستطيع البقاء» والمؤلف استرابنشيف في كتابه الأشباح الأربعة (التلوث - الفقر- المجاعة – العنف). جميعهم حاولوا البحث الجاد عن التفسيرات لمعنى الفقر وعلاقته بالنظام السياسي والإنتاجية ومصطلحات كالفقر النسبي والمطلق، وقدموا نماذج اقتصادية، وهناك بلدان حاولت تحسين وضع الفقراء بالرغم من صعوبة مكافحة الفقر والقضاء عليه نهائيا. مأثورنا العربي صحيح «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»... و«الجوع كافر».

* كاتب بحريني