نضوب الفكر الاستراتيجي لدى النخبة في مصر يحول دون تقديم مبادرات سياسية لاحتواء جماعة الإخوان، ويغلب لديها نزعة اللجوء إلى المعالجات الأمنية، فمصر ليست شبيهة بالحالة الفلسطينية لنخشى تكرار تجربة «حماس»، فالدولة هنا مازالت قوية ونخبتها متماسكة إلى حد بعيد وتستطيع بالتبعية إدارة علاقة متوازنة مع الإخوان تضمن لهم مشاركة سياسية مستقرة كحركة معارضة. لا تملك نخبة الحكم المصرية اليوم رؤية استراتيجية لإدارة علاقتها بجماعة الإخوان المسلمين ومستقبل دورها السياسي. لا تعويل إلا على أدوات جهاز الدولة الأمنية والقمعية ولا هدف باستثناء حصار الإخوان وتضييق مساحات حركتهم. المعضلة هي أن احتمالات نجاح النخبة في إضعاف الجماعة على المدى الطويل أو القضاء النهائي عليها تكاد تكون معدومة بالنظر إلى؛ امتداد قواعد الجماعة الشعبية، ورأسمالها الاجتماعي المتجدد، وقدراتها على التكيف كتنظيم مع مراحل القمع كما مع لحظات الانفراج. ومن ثم، فإن النتيجة الحتمية لاختزال الإخوان إلى ملف أمني هي مواجهات وصراعات متواترة بين الطرفين ذات كلفة عالية وزج للحياة السياسية المصرية إلى أتون أزمة لا نهاية لها.ذات المقاربة الاختزالية تُضيّع على الإخوان إمكانات التطور باتجاه فصل مؤسسي ووظيفي بين هويتهم كجماعة دينية تمارس العمل الدعوي ودورهم كحركة سياسية تفرض عليها ممارسة العمل العام التزام العلنية والطابع المدني. بل إن مواجهات الجماعة مع النخبة وما يترتب عليها من تغيرات مستمرة تطال جوهر وحدود مشاركتها بالحياة السياسية تحد كثيراً من قدرة الإخوان على تجديد رؤاها الإستراتيجية وتعوق عملياً البحث عن توازنات جديدة بين المقتضيات الواقعية لممارسة السياسة والالتزامات الإيديولوجية النابعة من المرجعية الدينية. بعبارة بديلة، فإن استمرار المواجهات وكذلك غياب الاستقرار عن مشاركة الإخوان، يحول بين السياسة وإعمال فعلها بالجماعة بصورة قد تدفع نحو الفصل بين الدعوي والسياسي وترتب فرز شيوخ الأولى عن برجماتيي الثانية.وواقع الأمر أن في العالم العربي حولنا، ومن دون استحضار تجربة الإسلاميين بتركيا، وهي لظروفهم وتاريخ تركيا السياسي والاجتماعي خلال القرن العشرين شديدة الخصوصية، عدداً من النماذج الناجحة لإدارة نخب الحكم لعلاقاتها بالأحزاب والحركات الإسلامية على نحو يمزج بين السماح بدمج الإسلاميين التدرجي بالحياة السياسية وبين فرض قيود نهائية (قانونية بالأساس) على أدوارهم تحول دون وصولهم إلى سدة الحكم وتبقي ممثليهم إما بمقاعد المعارضة البرلمانية وإما تشركهم بشكل محدود بحكومات ائتلافية، وهما البديلان الأكثر ملائمة لواقع سياسة عربية تهيمن عليها نخب قوية وواقع إسلاميين تعوزهم الجهوزية للحكم.وربما مثلت في هذا السياق خبرة حزب «العدالة والتنمية» بالمغرب وكذلك تجربة الحركات الإسلامية بالكويت الحالات الأكثر وضوحاً، ففي كليهما يغيب اليوم إلى حد بعيد القمع عن علاقة النخب بالإسلاميين ويبدو جلياً تطور «العدالة والتنمية» وفصيل كـ»الحركة الدستورية الإسلامية» بالكويت إلى فاعلين سياسيين برجماتيين يحترمان قواعد المنافسة والتعددية ويركزان على بدائل السياسات العامة عوضاً عن النقاشات الإيديولوجية. لا انعتاقاً أو تغير إيجابياً بعلاقة النخبة- الإخوان في مصر سوى بصياغة وتطبيق مثل هذه الرؤية الاستراتيجية المتوازنة. أعلم أن النخبة، وهي تقبل اليوم بخطوات متسارعة على لحظة انتقال السلطة الرئاسية، لا تريد المجازفة بانفتاح غير مضمون العواقب على الإخوان، بيد أن استمرار التعويل على الأدوات الأمنية والقمعية وفي ظل احتجاجات اجتماعية مرشحة للتصاعد يحمل من المخاطر ما هو أكبر وأدق. مصر كذلك ليست بشبيهة بالحالة الفلسطينية لنخشى تكرار تجربة «حماس»، فالدولة هنا مازالت قوية ونخبتها متماسكة إلى حد بعيد وتستطيع بالتبعية إدارة علاقة متوازنة مع الإخوان تضمن لهم مشاركة سياسية مستقرة كحركة معارضة وتحفزهم على التطور البرجماتي. فقط نضوب الفكر الاستراتيجي لدى النخبة هو الذي يحول دون ذلك.*كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي- واشنطن
مقالات
مصر- نخبة الحكم والإخوان... إلى أين؟
28-04-2008