• سيرتك الذاتية ترسم لنا لوحة إبداعية: روائي، وشاعر، وفنان تشكيلي وباحث، أين أنت في هذه الرحلة؟ ماذا أخذت منك، وماذا أعطتك؟
- اهتماماتي متنوعة فعلاً، لكنني أعتقد أنها كلها تنطلق من رؤية واحدة. أخذ مني هذا الجهد جزءاً كبيراً من حياتي، وأعطاني كل شيء. أنا تقريباً متفرغ للكتابة، أخصص لها الوقت الذي تستحقه، لذلك يعتبرني البعض كثير الإنتاج (ما يقارب 17 كتاباً) دون كتب الورشات التي أُشرف عليها، وعددها يفوق الثلاثين.
الكتابة تعطيني راحات لا يحققها لي شيء آخر، لا المكان، ولا المرأة، ولا السفر. الكتابة تمدني بالحصانة والإنسانية وبنوع من الطمأنينة العميقة التي تتخاطفها أجنحة المعنى المقدَّسة. أصير روحاً وأنا أكتب، وأصير أكثر من مجرَّد جسد اجتماعي. الفن عموماً هو تلك الطاقة الخلاقة التي تخترق قشرة الوجود، وتمنح البشري الفاني عشبة الخلود.
• أيهما أقرب لرؤاك، الكلمة أم الشعر أم الريشة؟
- أنا في الأصل شاعر، وتلك مهنتي بالحق! إليه أنتمي منذ أن وعيت سرّ الحرف وأنا طالب في المرحلة الثانوية، ثم في حياتي الجامعية، فالمهنية لاحقاً. قرأت لمعظم الأسماء الشعرية المؤسسة للشعرية العربية الحديثة، بكل روافدها ومدارسها، ورافقني بعض الشعراء في مراحل مختلفة من حياتي: بدر شاكر السياب، وسعدي يوسف، وحسب الشيخ جعفر، وخليل حاوي، وبلند الحيدري، وقبلهم شعراء، وبعدهم شعراء. استأثر بمجهودي البحثي الشاعر محمود درويش، قلَّبت معانيه ومبانيه، وعاشرت شعره دارساً ومُحباً وناقداً، ثم انتقل حُبي للشعر إلى البحث في شعريات أخرى غربية. وإذا أضفنا تعلقي الكبير بالشعر القديم، فإنه يجوز القول إنني أمسكت بالثور من قرنيه قديمها وحديثها. أنا قبل الكتابة قارئ ينسى نفسه وهو يقرأ، أتعلَّق بأي نص جميل وبأي صورة، وأكاد أتمثل الكثير من الصور في شعر نزار أو الشابي أو أدونيس أو غيرهم من الجدد! وأنا أحد المتمرسين بالشعر الحديث، وأدَّعي معرفة كل شاعر مجيد في العربية. هذا العلم لم يمنعني من الذهاب إلى المسرح والرواية والرسم، فكتبت بروح الشاعر، واجتهدت في رواياتي الخمس أن أقتحم ركناً يختص بالمرويات، وكتبت فيه أعمالي. على كل حال، تلك هي حياتي الآن. فوق طاولتي تجد الرواية والنقد والشعر والمسرح واللوحة، وقد أضفت أخيراً الموسيقى. إنه الجنون بعينه.
• نال ديوانك (سفر البوعزيزي) اهتماماً نقدياً لافتاً... ما الدافع الأساسي لكتابته؟
- طُبع «سفر البوعزيزي» ثلاث طبعات، إحداها كانت عن الهيئة العامة في مصر، وهو كتابي الشعري التاسع بحجم 240 صفحة، تضمن نصاً بيانياً في 13 نقطة لخصت فيه طبيعة عملي الشعري للقارئ العربي، ثم جعلته يضم ما كتبته لحدود قيام الثورة التونسية مع إضافة بعض النصوص للفترة اللاحقة. حظي الكتاب باهتمام نقدي كبير، إذ كتب عنه كتاب نقدي تضمَّن ما يقارب 15 دراسة أكاديمية حول مبانيه ومعانيه. سبب كتابته المباشر، هو أن أتأمل ما حدث، وأن أتابع صدى الحلم التونسي بالخلاص السياسي، وما أعقبه من خيبة أمل كبرى في النخب التونسية، وفي المسار الثوري الذي لم يكن عميقاً بالدرجة الكافية، ولم يستطع حماية نفسه أو تجذير البلاد في الحداثة القائمة على الصناعة والعلم، بل ارتد المجتمع إلى سؤال الهوية، مَنْ نحن؟ وماذا نريد؟ ولقد أسميته «سفر البوعزيزي» على اسم الشاب التونسي الذي حرق نفسه بحثاً عن أمل في وطن ممكن، لكنه لم يحقق شيئاً، ونحن من بعده لم نحقق شيئاً. صيَّرته رمزاً لكل إنسان حلم بغد أفضل، لكنه أفاق على واقع مرير ساءت فيه أحواله.
• بالحديث عن الفنان التشكيلي نصر سامي، ماذا تقول؟
- كنت أرسم بطريقة تقليدية باستعمال الخامات والقماش، وجرَّبت عديد المدارس، لكنني منذ بعض السنوات انتهيت إلى قناعة وطبقتها، وهي التخلي التام والنهائي عن كل الخامات في عملي التشكيلي، والعمل على لوحة افتراضية تستجيب في حين للتطور العلمي في عالمنا اليوم، وللملكة الإبداعية التي تنفّذ فيها اليد ما يقرره العقل الواعي ونوازع النفس اللاواعية،
• تشهد تونس منذ سنوات تحوُّلات سياسية واجتماعية كبيرة، كيف انعكس ذلك على الرواية برأيك؟ وهل سنشهد أساليب جديدة في السرد الروائي؟
- هناك عوامل تطوُّر خارجية لا شك في أنها مؤثرة بقوة في نسيج الرواية العربية والرواية عموماً، لكنني أعتقد أن المؤثر الأكثر أهمية هو العمل الدؤوب المستمر عبر القراءة والكتابة. فالمجال الطبيعي بالنسبة للنحل مؤثر جداً، لكن لو كانت النحلة أصلاً معطوبة، فلن ينفعها المجال الطبيعي في شيء. أنا أومن بأن أهم مؤثر إضافة إلى ما هو اجتماعي وسياسي، هو الفردية والإصغاء العميق لجوهر الوجود، وتأمل ما يكتب في عالمنا اليوم.
إن فن الرواية، كما يُقال، يزدهر ويتطور في الحروب، لكن حتى في الحروب، فإن الكاتب الجيد يجب أن يكون هادئاً وممتلئاً بالأحوال التي سيكتبها عارفاً بخباياها. وما من نص روائي جيد كان وليداً فقط لما هو اجتماعي أو سياسي فقط، بل إنهما يتضافران عند الكاتب المجد الصبور والعمول ليعطسا طبقات الوعي الفاسدة وخيبات الإنسان في حياته.
• هل ترى أن الانفتاح على الثقافات الأخرى مفيد للرواية مع الحفاظ على خصوصية الهوية العربية وقضاياها؟
- الرواية العربية متفردة ومطلوبة عالمياً، والرواية العالمية هي أفق الرواية العربية. إننا نعيش في العالم العربي ما عاشه الغرب متأخرين عنه عشرات السنين. لذلك، فمن البديهي لشخص مثلي أن يهتم قارئاً وباحثاً بالرواية العالمية في نماذجها الجيدة التي تُعنى بالإنسان وأسئلة وجوده الأزلية. نحن العرب نبقى أيضاً مواطنين كونيين! ثقافات العالم هي أيضاً ثقافتنا، ما من شيء يمنعنا من هذا الغنى وهذا الجمال وهذه الأدبية المفكرة المشغولة بأسئلة الإنسان الكبرى. لكن انقذافي الشخصي فيما هو كوني لا يجعلني أقصي ما سميته خصوصيتي الثقافية، باعتباري أساساً كاتباً باللغة العربية، وجميع أو معظم نماذجي هي الإنسان العربي الذي أعايشه وأطرح قضاياه. ولا أتعامل باعتباري ضحية، أو منتهكاً، أو مقصياً، بل باعتباري ضلعاً في جسد الكون، ومنطقة أساسية في جغرافيا الألم الإنساني.
نصر سامي في سطور
روائي وشاعر ورسام تشكيلي وباحث من تونس، حاصل على العديد من الجوائز، منها: جائزة الشارقة للرواية عن رواية «حكايات جابر الراعي»، وجائزة كتارا للرواية برواية «الطائر البشري»، وجائزة مسرح أنسامبل للكتابة المسرحية، القائمة القصيرة في جائزة غسان كنفاني للرواية برواية «برلتراس»، القائمة القصيرة في جائزة سرد الذهب بمجموعة قصصية بعنوان الحشاشات. أصدر 9 كتب شعرية، و5 روايات، ومسرحية واحدة، و3 كتب في النقد. صدرت عنه 3 كتب نقدية وعدد من البحوث المحكّمة. مدرِّب دولي معتمد في السرديات، ومشرف على مشروع «الورشة» للقصة القصيرة وعلى سلسلة كتبها. يهتم في بحوثه وسرده بالمرويات الشفوية، مستثمراً ممكناتها وطاقاتها في عوالمه السردية.