طرح الصحافي جورج باكر «نظرة جديدة عن القوة الأميركية» في صحيفة ذا أتلانتيك، في أواخر شهر نوفمبر، وهي مرادفة لنسخة ليبرالية من سياسة التعاون الدولية التي تدعو إلى «الاعتراف بحدود» السياسة الخارجية الأميركية، فاختصر باكر هذه الاستراتيجية في نهاية مقالته قائلاً: «قد تتماشى السياسة الأميركية مع الرغبة العالمية في اكتساب الحرية، لكن يجب أن تدرك أيضاً العواقب غير المقصودة وتتخلى عن الأوهام المرتبطة بتحقيق نجاح سهل». يحمل هذا المفهوم خليطاً من التحديات والوعود للأميركيين الراغبين في تجاوز حقبة الحرب على الإرهاب، فبرأي باكر، قضت الحرب في أوكرانيا على شعبية «ضبط النفس»، أي الفكرة التي تدعو الولايات المتحدة إلى تقليص التزاماتها الدولية، وتخفيض ميزانيتها العسكرية أو إعادة صياغتها تماشياً مع تراجع الدور الأميركي في العالم، والتخلي عن استراتيجية يسمّيها العالِم السياسي باري بوزين «الهيمنة الليبرالية».

أحدثت مقالة باكر ضجة واسعة طبعاً وسط مؤيدي ضبط النفس، لكن يظن المؤرخ سامويل موين أن مقالة باكر عكست واقعاً مفاده أن النظام القديم لا يمكن تجديده بعد حقبة الحرب على الإرهاب، حتى أن الخيار العسكري الذي يدعمه مؤيدو الحرب الليبراليون غير قابل للتجديد بكل بساطة. في هذه المرحلة من الحرب في أوكرانيا، قد يتحقق واحد من سيناريوهَين مترابطَين:

Ad

أولاً: قد يستمر الصراع على شكل حرب استنزاف، وقد تصل الحرب إلى طريق مسدود يدوم لسنوات طويلة، حيث يُقتَل آلاف الأوكرانيين الآخرين بطريقة مأساوية وتتدمّر البنية التحتية الأوكرانية، ستبقى الاستراتيجية الأميركية على حالها بعد بضعة أشهر، وستتابع الولايات المتحدة تكثيف مساعداتها الأمنية إلى أوكرانيا، حتى لو سيطر الجمهوريون على مجلس النواب.

ثانياً: قد تنتهي هذه الحرب عبر اتفاق دبلوماسي أو دولي، وقد يضطرب النظام الروسي بسبب التبدلات الحاصلة في السياسة العالمية والديناميات الداخلية، أو يعتبر الاتحاد الروسي خسائره كافية، فيبحث عن مخرج من أوكرانيا عبر إرساء «سلام مُشَرّف»، كما فعلت الولايات المتحدة في فيتنام، عام 1973.

في مرحلة معينة، لا مفر من طرح السؤال التالي: ما الوجهة المقبلة؟ يُفترض أن يجيب مؤيدو ضبط النفس عن هذا السؤال، ولن تكون الإشادة بتعدد الأقطاب أو الأفكار التي تدعو إلى ابتكار نسخة من «خطة مارشال» لأوكرانيا كافية لإنشاء مؤسسات قادرة على منع الحروب الإمبريالية، وتحمل أُطُر العمل هذه طابعاً قومياً في جوهرها، فهي تجسّد قدرة الصراع بين القوى العظمى على تقييد صناعة القرار في السياسة الخارجية، وتضع مصلحة قلة من الناس فوق مصالح الأكثرية، وقد أصبح المجال مفتوحاً أمام مؤيدي ضبط النفس لطرح رؤية جديدة، فلا يمكنهم التمسك بـ «رؤية العالم الموحّد» المطروحة منذ عقود، ولا يمكن السماح لنظام الردع الخاص بالقوى العظمى بتحديد معالم الاستقرار على أمل أن تصطف دول من الجنوب العالمي، مثل الهند، مع الولايات المتحدة ضد روسيا دعماً للقيم الديموقراطية. مثلما تبتكر الإدارات الرئاسية نسختها الخاصة من مؤيدي ضبط النفس في استراتيجية الأمن القومي، يُفترض أن تجتمع هذه الأطراف ككتلة موحّدة (خلال مؤتمر أو منتدى مشابه) لطرح استراتيجيتها الخاصة للأمن القومي بشكلٍ شبه منتظم (كل أربع إلى ثماني سنوات مثلاً). سيحصل مؤيدو ضبط النفس حينها على وثيقة عالمية يمكن الرجوع إليها عند سؤالهم عن معنى «ضبط النفس» أو السياسة المناسبة للتعامل مع أوكرانيا، وتؤيد مئات الشخصيات العامة مبدأ ضبط النفس، لذا سيكون إنشاء فريق عمل خطوة عملية أولى تمهيداً لطرح استراتيجية ملموسة.

لهذا السبب، يجب أن يعتبر مؤيدو ضبط النفس مقالة باكر وأي مقالات مستقبلية من هذا النوع دعوة للاستعداد للمواجهة، أو فرصة حقيقية لتحديد نظام ضبط النفس الجديد، وقد حان الوقت كي يطرح هذا المعسكر استراتيجية بديلة عن «المنافسة بين القوى العظمى» ويختار مقاربة تجمع بين الدول في مواضيع ذات أهمية دولية، فإذا كانت الحرب في أوكرانيا حدثاً مفصلياً فعلاً، يُفترض ألا يهدر أحد هذه الفرصة.

* مايكل برينيس