يقال إن أصل هذا السؤال يعود إلى ذاكرة وباء انتشر سابقاً وجعل الناس يقبعون في البيوت تفادياً له أو تجنّباً لنشره، إذ كان يتسبّب في تغيّر لون بشرة المصاب به، متدرجاً بين الأحمر والأصفر أو ذلك الباهت المريب... «الأزرق».

سؤال مثقل بخوف الفقد، واستقصاء خفيّ لتبيّن حال الأحبة والمعارف لمعرفة مَن بقي منهم، ومَن تغيّر لونه، ومَن شوّبه المرض بتلويحة الاحتضار الخاطفة.

Ad

ورغم أن الكلمات تتطور وتتغيّر مع مرور الزمن، فإننا نجد اليوم أن ما يتغيّر بشكل أسرع هو «الأمراض» التي تجتاح المجتمعات متلاحقةً، والتي تهدّد أمنهم واستقرارهم وقدرتهم... لا على ممارسة تفاصيل من شؤون الحياة، بل على الإحساس بـ «الحياة» نفسها.

خذ «التنمّر» مثالاً بسيطاً على ظاهرة فتّاكة لها أشكال مختلفة: الازدراء، واحتقار الآخرين، والشماتة والتشفي بالمصائب، والصمت إزاء الظلم، وغير ذلك مما يُعدّ عَرَضاً لنوازع نفسية دفينة ومتأصلة يحرّكها الحقد وتغذيها الكراهية، تتضخم الأمراض وتتفاقم وتصبح ظاهرة اجتماعية وتبقى اللغة تحمل دلالتها الأنقى من دون أن يسلبها السياق التاريخي والاجتماعي معناها الحميميّ الممرّض... الذي يمدّ يد السؤال عن اللون/ الحال، ليرمّم في الآخرين تهاويهم، ويدعوهم لـ «التماسك» والبقاء.

وقد لا تكشف اللغة العامة - باعتبارها صيرورة اجتماعية، وشرطاً اجتماعياً - عن الحقيقة لو كان السؤال مجرداً عن «الحال»، لأن الإجابة قد تحمل التناقض ما بين القناع اللغوي الذي يدّعي أنه «بخير»، والواجهة التي تستدعي الإجابات الاعتيادية المتداولة لتخفي ما يتطلب الكشف عنه، لكنّ مفردتنا الشعبية التي تنطلق من السؤال عن «اللون»، تجسيد لارتباط أقوى يلامس الآخر، حتى صارت كياناً خاصاً لهويتنا ضمن هذا الخطاب.

تتضح هذه العلاقة في فلسفة إيمانويل ليفيناس عن المعاناة و«سيمياء الوجه» كمصطلح مركزي يمثل الآخر، ويشير إلى العلاقات التي تثير المسؤولية الأخلاقية، فـ «الوجه هو ظهور الآخر الذي يطلب منّا الاستجابة لندائه، ويفتح لنا مجالاً للالتزام الأخلاقي».

بين «الوجه» و«لونه» تكون العلاقة ليست مجرد أداء لغوي، بل حين تُقال بصدقٍ تشير إلى تعافي اللغة نفسها وتطورها الإنسانيّ الأرقى ليمثّل إعادة تفكيك للهشاشة الجماعية، أي يشير بشكل أدق إلى علامات التعافي والعلاج المجتمعي، بالانحياز للضعف المشترك، والترابط الذي يتجاوز الجدران العازلة، ويحفظ إنسانيتنا من التشظي، ومعالجتها بهذا السؤال المشتبك بالعلاقات والصلات البشرية، والذي يجسّ نبض «الذاكرة»، و«المشاعر» بتناقضاتها، و«الهواجس» والمتغيرات الجديدة الطارئة بعد كل حدث، والانزياحات على المستوى القيَمي والأخلاقي وتبدلاتها، والذي يعيد طرق الأبواب حتى اليوم، ويكحت القشرة الزائفة التي تراكمت أغبرتها حتى شوّهت وجهاً لمجتمعنا ما زلنا نحِنُّ إليه في سؤال... «شلونكم؟!».