في خضم الدعوات الأخيرة لتطوير التعليم بالكويت، لا بد أن نغتنم هذه اللحظة، لا لمطاردة أشباح الأدلجة أو تصفية الحسابات الفكرية، ولا للانقضاض على تيارات دينية أُضعفت سياسياً، بل لتوجيه البوصلة نحو أصل الداء، الجمود البنيوي العميق في النظام التعليمي، الذي ظل لعقود رهينة نمطاً تقليدياً تلقينياً، لا يمتّ بصلة لا إلى التقاليد الثقافية الأصيلة، ولا إلى روح العصر.
وقد يكون من المريح سياسياً تحميل مسؤولية التراجع التعليمي لعوامل دينية أو اجتماعية، لكن الحقيقة أن جذور الأزمة أعمق من ذلك، وتعود إلى التصور الذي أُسس عليه التعليم التقليدي في الستينيات، وكذلك حين ارتبط بالتوظيف الآلي في الجهاز الحكومي، وتهيئة الشاب للوظيفة المضمونة.
وقد ساهم هذا التوجه المرتبط بالالتزام الدستوري للدولة بالتوظيف، في خلق تكدس مزمن في الجهاز التعليمي، وأصبحنا أمام منظومة ضخمة مالياً، هشّة أكاديمياً، ومرتبكة إدارياً.
غياب الرؤية الاستراتيجية الواضحة
يجب أن يكون التعليم مشروع دولة لا مشروع وزارة فقط، فالتعليم مشروع وطني طويل الأمد لا يحتمل المجاملات، وتكفي الإشارة إلى أنه رغم إصدار عشرات المبادرات والخطط، فإننا نلاحظ غياب رؤية وطنية واضحة تحمل استراتيجية علمية محددة للنهوض بالتعليم، بعيدا عن تجاذب الشعبوية والبرلمان، ويحتاج ذلك إلى لجنة استشارية عليا، تحت إشراف رئيس الحكومة، تقدّم مشروعها بشفافية أمام الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني، وهو ما سنتحدث عنه في مقالنا المقبل، بنية راكدة ومخرجات لا تنتج، ليست المشكلة في المحتوى والمنهج فقط، بل في جوهر فلسفة التعلم.
النظام الحالي قائم على معادلة بسيطة: (الحضور + الحفظ + الامتحان = النجاح)، وهي معادلة تقصي التفكير النقدي، والتعلم الذاتي، وبناء الشخصية.
وفي حين تتجه الأنظمة التعليمية المتقدمة نحو التعليم القائم على المشاريع، والمهارات التفاعلية، والتقنيات الحديثة، بل وأصبح الذكاء الاصطناعي أحد طرق التعليم والتعلم، ما زالت مدارسنا تُدار بعقليات ما قبل الإنترنت، رغم استخدامه المحدود. والمفارقة المؤلمة أن تكلفة الطالب في المدارس الحكومية بسنغافورة المتقدمة تعليميا تبلغ 1400 دينار فقط، مقارنة بنحو 5300 دينار سنوياً في الكويت (6955 لرياض الأطفال و4995 للابتدائي و4809 للمتوسط و4384 للثانوي) ومع ذلك، نجد التحصيل العلمي ضعيفاً، والمهارات محدودة، والانفصال شبه التام عن سوق العمل. فهل يمكن الاستمرار بضخ الأموال في منظومة لا تنتج؟!
الدولة العميقة في قلب وزارة التربية
حين نتحدث عن «الدولة العميقة» في وزارة التربية، فإن المقصود ليس مؤامرة خفية، بل شبكة من العادات الإدارية المتوارثة، والعلاقات المتشابكة، والمصالح المتداخلة، التي تقاوم التغيير خوفاً من فقدان الامتيازات. وهذا ما يجعل الكثير من محاولات الإصلاح تُجهض قبل أن تُولد. يحدث أحياناً تغيير في الشكل، مثل تعديلات في المناهج، تقليص مواد، إطلاق رؤى وشعارات، تدوير للمسؤولين، لكن جوهر التعليم لا يُمسّ. نفس المعلم، نفس الأساليب، نفس المخرجات الضعيفة في اللغة والرياضيات والتفكير النقدي، فضلاً عن الثقافة العامة والالتزام المهني.
وفي الوقت الذي تتنامى تهيئة الطالب قبل الجامعة لتخصصات استراتيجية، كالأمن السيبراني، والتمريض، والذكاء الاصطناعي، لا تزال المنظومة التعليمية تخرج أعداداً كبيرة من تخصصات لا تلبي احتياجات السوق، مما يفرز بطالة مقنّعة ويعمّق الفجوة بين التعليم والاقتصاد.
تضخم الجهاز التنفيذي
يعاني الهيكل الإداري لوزارة التربية - كغيره من المؤسسات - تضخما شديدا، مما يؤدي إلى ترهّل الأداء المؤسسي، وسيطرة البيروقراطية على محاور العمل، وأصبح معه بند الرواتب يشكّل النسبة الأكبر في الميزانية على حساب تطوير التعليم ذاته وجودته الفنية.
نتائج متضخمة وواقع هش
من أبرز تجليات الخلل التراكمي في نظام التعليم الكويتي تضخّم نتائج الثانوية العامة بصورة غير واقعية. فقد شهدنا في السنوات الأخيرة ارتفاعاً غير مُبرر في المعدلات، نتيجة عدة عوامل مقلقة، مثل تفشي الغش الإلكتروني، باستخدام سماعات دقيقة تُستخرج أحياناً من أذن الطالب بعمليات جراحية بعد الامتحان، وتسرّب منهجي للأسئلة والتدخلات من بعض الإدارات المدرسية لرفع نسبة النجاح تحت ضغوط المحسوبيات والتوجهات الشعبوية.
وقد بلغ الأمر ذروته خلال جائحة كورونا، حين منحت نسب عالية دون اختبارات فعلية، فتحولت الشهادة الثانوية إلى أداة توزيع للبعثات لا كمؤشر للتميز.
ويكفي للتأمل أن أكثر من 700 طالب كويتي ابتُعثوا في عام واحد إلى كلية الطب بجامعة الإسكندرية، وهو رقم لا يعكس المستوى الحقيقي للطلبة، ولا يمكن تفسيره إلا بمنطق الإرضاء الشعبوي على حساب الجودة.
لا حداثة بإقصاء الهوية
يظن البعض أن تحديث التعليم لا يتم إلا بإقصاء الدين والقيم من المناهج، وكأن الهوية خصم للمعرفة. لكن التجارب الدولية الرائدة، مثل ماليزيا وإندونيسيا، وتركيا، بل وكثير من التجارب الأوروبية والأميركية الناجحة التي تثبت أن الدمج الذكي بين الجذور الثقافية والتقنيات الحديثة هو مفتاح النجاح والتوازن.
فالإسلام لم يكن يوماً عائقاً أمام المعرفة، بل كان حاضنتها في أزهى عصورها.
المشكلة ليست في الدين، بل في غياب منهج تعليمي حيّ وفعّال، قادر على إنتاج عقل ناقد، ومواطن مسؤول يجمع بين الأصالة والانفتاح.
المعلم محور الإصلاح
الإصلاح لا يُنجز بقرارات مركزية فقط، بل برؤية تشاركية تشمل المعلمين، وأولياء الأمور والمختصين والمجتمع المدني، لذا يجب إعادة تأهيل المعلم لا بوصفه موظفاً، بل كقائد معرفي. ونحذّر من تحوّل عملية تطوير التعليم إلى حملة موسمية أو مناسبة إعلامية تختزل في تغيير وزير أو شعار.
خاتمة لحظة مواجهة لا مجاملة
يقف التعليم في الكويت اليوم عند مفترق طرق، ويجب أن نمتلك الشجاعة لإعادة بناء النظام التعليمي من جذوره بما يوفره العهد الجديد من فرصة ذهبية، وما نأمله في اجتهاد الوزير الحالي وفريقه حتى لا تدفع الأجيال القادمة ثمن المجاملات المستمرة.
لن يكفي تغيير الكتب أو الأنظمة الإلكترونية، ما لم تُحدد رؤيتنا الواضحة للتعليم وأهدافه الاستراتيجية التي تمكننا من بناء إنسان قادر على التفكير والإنتاج ومسايرة عصر الذكاء الاصطناعي ما لم نربط التعليم بالكفاءة، والمناهج بالواقع، والنتائج بالمحاسبة، فإننا لا نهدر المال فقط، بل نبدد أعمار أجيال، ونضيع على الوطن فرص المستقبل. ولا سبيل للإصلاح الحقيقي إلا بلجنة عليا تُشرف على المشروع وتطرحه أمام الحكومة والشعب بكل وضوح، وهو موضوعنا القادم.
* وزير الصحة الأسبق