يبدو أن الفساد في دول العالم لم يعد مجرد سلوك طارئ أو استثناء عن القاعدة، بل تحوّل إلى نظام قائم بذاته، له مفرداته وطقوسه، يمارس في وضح النهار بجرأة لا تحت غطاء الخفاء أو الحياء، حتى غدا أشبه بتركة تتناقلها الأجيال كحرفة ومهارة لا يراد لها أن تغادر الموروث العائلي.
ولعلّ أولى قواعد هذه «الحرفة» الشاذة أن الفساد لا يُمارَس فردياً، بل هو بطبيعته عمل جماعي، يحتاج إلى شركاء في المصلحة لتأمين الحماية أو المشاركة في المكاسب. وهنا، لا يعود «الإنجاز» مرتبطاً بالكفاءة أو السيرة النظيفة، بل بشبكة علاقات متداخلة تتقاسم النفوذ وتخفي الممارسات بلا حسيب أو رقيب.
المؤسف في عالم الفساد أن بعض من بيدهم القرار، أو من أوكل إليهم تطبيق القانون، يتحوّلون إلى الداعمين الحقيقيين والمشاركين الفعليين في مشاريعه، فهم يفتحون الأبواب بالتأويل، ويمايزون بالتطبيق، ليسهّلوا الطريق أمام من لا يجرؤ غيرهم على الاقتراب، وبفضلهم يغدو الفساد منظومة متكاملة، يتحوّل فيها المبتدئ إلى محترف، ويصبح التقرب من أصحاب النفوذ ضرورة لا مفرّ منها لمن أراد دخول عالم الصفقات الكبرى والمشبوهة.
ولأنّ الفساد منظومة لا تقبل الخطأ وتستبعد الهواة، يسعى الفاسد إلى احتراف التمويه القانوني وإتقانه، فلا يترك أثراً واضحاً، ويحرص على أن تبدو كل خطوة قانونية ومحكمة. فالمسارات مخططة بعناية، والإجراءات موثّقة بالأوراق، والقرارات مغطاة باللوائح، حتى يبدو كل شيء - في الظاهر - سليماً، وكلّ نية بريئة وكل قرار نزيه!
الفاسد أبعد ما يكون عن الغباء أو التردد والخوف، يتقن فنون المراوغة والتستّر بمهارة ويحفظ عن ظهر قلب ما يُعرف بـ «قواعد اللعبة» التي تفيد بأن لكل طبقة في منظومة الفساد أدواتها وحصصها وحدودها وأشخاصها، فلا يقترب الصغير من حصة الكبير، ولا يتجاوز أحد موقعه إلا بثمن، وليس ذلك احتراماً للأخلاق أو التزاماً بالمبادئ، بل حرصاً على استمرارية شبكة المصالح.
ويبلغ المشهد الرديء قعره في الانحطاط حين يُحتفل بالفساد كإنجاز ولا يعامل كجريمة، وتبلغ الطامة ذروتها حين يجمّل الواقع ويتم التلاعب بالمصطلحات والألفاظ والقيم، فتصبح «الرشوة» المجرّمة مجرد «عمولة» مشرّعة أو «هدية» مستحقة، ويغدو الفاسد «شاطراً»، والسارق «وجيهاً»، والمحتال «ذكياً»، وتُقلب الموازين حتى يُلام النزيه على نزاهته، ويُقصى الشريف لأنه لم «يتأقلم» مع واقع الحال.
ولكي تكتمل المنظومة الشيطانية، فإن كثيرين ممّن يعتاشون على الفساد هم أول من يتحدث عن مكافحته: يرفعون الشعارات، ويملأون الجدران بالمواعظ والحكم وحتى بالآيات القرآنية، ويبرعون في التستر خلف بسمة محبّبة ومحيّا بريء، ويقدّمون أنفسهم كقادة وروّاد نجاح... ثمّ تأتي جوقة التسويق والإعلام لتلمّع ما انكشف من شوائب في صفحاتهم، فيُشترى الكتّاب، ويُقرّب الممجِّدون، وتبدّل الحقائق كما تُبدَّل الأقنعة.
في هذا المشهد المقلوب، لا يعود القانون ميزانَ عدلٍ، بل يصبح ثقلاً يُرجّح كفةً على أخرى، فتُفصّل قواعده وإجراءات على مقاس الأقوياء، ويُترك الضعفاء فريسةً لمنظومة قاسية لا ترحم، وتصبح هيبة العدالة مجرد شعارٍ باهت على لافتة، فيعتاد الناس الظلم حتى يستأنسوه، ويتقبّلوا الشاذ حتى يألفوه، ويستغربوا الصحيح حتى ينبذوه، وتصبح الدعوة للإصلاح كأنها صوت نشاز ونداء غير مألوف.
لا شك في أن تعزيز النزاهة والشفافية من الركائز الأساسية لمكافحة الفساد، حيث تفتح قواعدهما المجال واسعاً للمساءلة وتفعيل دور الرقابة وتطبيق القوانين الصارمة، ولا ريب في أن حوكمة المؤسسات وتعزيز استقلال القضاء هما ضمانتان رئيسيتان لتصويب المسار، ولا نقاش بدور التوعية الدينية والمجتمعية في بناء ثقافة رافضة للفساد تساهم في تجفيف منابعه ونبذ المتورطين فيه، ولكن تبقى المعركة الحقيقية في الداخل، مع الضمير، إذ حين يصحو هذا الصامت المهيب، يسكت كل ما ضجّ من حوله وما نطق من قبله.
القانون قد يُخرَق، والرقابة قد تفشل، والوعظ قد يخفق، والمجتمع قد يتغاضى، والمحتاج قد يخضع، لكن الضمير - اذا استفاق - لا يمكن كتم صوته، ولا التغاضي عن وخز إيلامه، وخصوصاً إذا ما استعاد المرء عمق الدلالات في الآية الكريمة «مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ».