سقطت المدارس والعلم عندما أصبح التعليم جزءاً من سوق العرض والطلب، وتحول من مسؤولية على الدولة تجاه مواطنيها إلى مسؤولية من يلد ذاك الطفل أو قد يترك ليربيه الشارع أو الـ «توك توك». تسارع الآباء فور استخراج شهادات الميلاد لأطفالهم إلى البحث عن أي مدرسة مناسبة لمستقبل يأتي لهم ولأبنائهم بفرصة عمل «مبهرة». راح الأب والأم يضعان القرش فوق القرش، أو الفلس فوق الفلس، كله من أجل دفع أقساط تلك المدرسة التي ستفتح شبابيك بل بوابات السماء لأبنائهما وبناتهما، فترتفع بهم درجة أو درجات ضمن السلم الوظيفي، بل الطبقي، أو ربما تقفز بهم ليصبحوا هناك ضمن قوائم فوربس وبلومبرغ مع ذاك العدد القليل من مليارديرات العالم.

سقطت المدارس عندما بات أبناء كل المسؤولين عن التعليم والجامعات وصناعة القرارات في دولنا يلتحقون بالمدارس الخاصة ويرتقون إلى أعلاها تدريجياً وهم يرددون أنهم قاموا بتحسين التعليم العام والمدارس الحكومية! وسقطت عندما لا يخجل وزير للتربية والتعليم أن يقول «إننا نعمل على تحسين جودة التعليم ومخرجاته» بينما طوابير العاطلين من الخريجين تصطف أمام مكاتب التوظيف «متسولين» لفرصة عمل تعوض كل تلك المصاريف على تعليم يكرس كثيراً من العتمة بدلاً من فتح أبواب النور. وعندما يمرض مسؤول يطير إلى مستشفى هناك في بلد بعيد، بينما كليات الطب في بلده تخرّج الآلاف من الأطباء والمختصين!

Ad

تفشل الدول في حكمها ليس فقط عندما تكتم الصوت المختلف وربما تحبسه أو تعتقله بالعزلة بدلاً من السجن أو بكليهما، بل أيضاً عندما يكون المعلم حبيس أفكار وتاريخ قديم أو متصور أن التعليم وسيلة لكسب الرزق عبر تلقين غبي لا يرسخ فكرة البحث والنقد، فيصبح الطالب موظفاً أو خبيراً أو مختصاً أو حتى أستاذاً جامعياً وهو لا يتقن سوى التحفيظ والتلقين وكتم الأسئلة ككاتم الصوت في المسدسات المستوردة. «حظائر» لا مدارس مفتوحة على الأفكار المتصارعة ولا مساحات للإبداع والابتكار ولا حتى لرأي مختلف ولا لصوت داخلي، ومناهج يصوغها ربما كثير من الخبراء بنوايا حسنة جداً، ولكنها تنتهي تحت مقص الرقيب السياسي وأهدافه، فتتحول دروس التربية الوطنية وتتلون حسب من يحكم ومن يهيمن ومن يخطط لمستقبل قد لا يكون مشرقاً إلا في غرفه المظلمة هو لا في الواقع.

تسقط المدارس والتعليم عندما يتصور بعض المعلمين والمربين أن التعليم يتطور بمجرد أن يحضر الطالب جهاز كمبيوتره الخاص أو يتواصل مع معلميه وأساتذته عبر البريد الإلكتروني. فكر ضيق وفهم ضيق كما قالت تلك المسؤولة عن التعليم في ذاك البلد البعيد الأفقر أوروبياً والأقل ذكراً في وسائل الإعلام... قالت: نحن هنا قد اتخذنا خطوات مغايرة للنظام التعليمي المعولم، فقد عولمت الولايات المتحدة كل شيء، حتى نظامها وأساليبها التعليمية، بل رسخت فكرة أنها الأفضل لأي طالب ساعٍ للعلم في أي بقعة في العالم. تقول تلك المربية: لقد اكتشفنا أنها على العكس تحول الطفل أو الطفلة إلى شيء من الكسل، فكل شيء يحل عبر الأجهزة أو الذكاء الاصطناعي، فلِمَ التفكير والتعب أو التعلم عبر اللعب أو الخروج في حضن الطبيعة وتعلم البحث والتمحيص وإعادة المحاولة لإيجاد إجابات غير تقليدية لأسئلة قد تبدو قديمة بعض الشيء أو مكررة؟

نحن لا نريد أن نخرج طوابير من البشر المتشابهين حد التطابق، حتى في معرفتهم وتطلعاتهم وهواياتهم وأفكارهم ومعتقداتهم، بل نترك لهم حرية التجوال في كل دهاليز العلم والفكر والإبداع كما يشاؤون، وهنا ربما يتعلمون أيضا فن تقبّل الآخر وعدم نبذه. ويشير أحد المختصين إلى أن هناك أكثر من 54 مليون أمي في العالم العربي (سيرتفع العدد إلى 100 مليون عام 2030 حسب «الألكسو»)، ولكن العدد أكبر بكثير إذا ما عرفنا أن كثيراً من الخريجين حاملي الشهادات، حتى الجامعية منها، لا يحسنون الكتابة والقراءة بأية لغة بما في ذلك لغتهم العربية، بل لا يعرفون أي شيء عن العلم والتطور والتاريخ والجغرافيا وغيرها من أسس المعرفة.

ويسقط أو يفشل التعليم عندما يتحول المتعلمون إلى مستهلكين غير قادرين على إنتاج ما يلبسون ويأكلون، كما قال جبران منذ عقود طويلة، وتفشل الحكومات في تحقيق أهدافها أو تطلعات شعوبها عندما يندس الجهل في صفوفها الأمامية، ويختبئ الجهلة خلف الشهادات الفاخرة ويتسلقون حتى يصلوا إلى مناصب صنع القرار ملتحفين ومتزينين بتلك الدرجات العليا من التعليم في أعرق الجامعات خارج أوطانهم طبعاً، فلا قيمة لجامعة أو مدرسة وطنية كما كان في تاريخنا الماضي! وتفشل الدول عندما يتصور الجاهل أنه حامل لواء العلم والمعرفة لحمله شهادة تلك الجامعة أو لمنصب لم يكن يحلم به... تسقط المدرسة والتعليم فتسقط الشعوب والأمم ويبقى الجهل مستلقياً على ظهره يضحك عليهم جميعاً.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية