«تَرَكْتُهُ في وَحْشِ إِصْمِتَ، وَبِبَلْدَةِ إِصْمِتَ، وَفي بَلْدَةِ إِصْمِتَةَ» مثل أو جملة مُحَيّرة في معناها وفي سبب قولها الغامض، فهي تصف شخصاً تُرك وحيداً في فلاةٍ أو في مكانٍ موحش بعيد ناءٍ غير معروف له، تُرك في بَلْدَة تسمى إصمت، هذه البَلْدَةِ إصْمِتَة، أي قفراء وكئيبة، تُرك وحيداً لا ناصر له.
لا شك في أن اللغة العربية غنية بالتعابير، وتكرار كلمة إصمت في تلك الجملة أعطى شعوراً بالسكون والسكوت والوحدة والغموض، كلمة الصمت هذه تحمل أكثر من معنى، ولا تعني السكوت فقط، فهي تعني أيضاً أمراً بالصمت فيقال: أصمته أي أسكته، أما الصُّمات فتعني سرعة العطش، والصامت من اللبن يعني الخاثر منه، والصامت من الإبل يعني العشرين منها، والصامت من المال يعني الذهب والفضة، أما الصَّموت فهي الدرع الثقيلة، وضربة صَموت أي ضربة وصلت حتى العظم، وللصامت معانٍ أخرى لا يتسع المجال لها.
لا نعتقد أن أحداً يستطيع أن يعيش وحيداً في مكان مقفر موحش صامت، «بلا حنيس ولا ونيس»، فهو يُشعر المرء بالانعزال عن محيطه، حتى أن المتنبي وصف الوحدة التي خبرها بأنها وحشية، فقال منشداً، مشبهاً قلبه بطائر حبيس في صدره، عاكساً شعوراً عميقاً بالعزلة:
أُقاسي الوَحدَةَ الوَحشِيَّةَ الكُبرى
وَقَلبي طائِرٌ قَفَصُهُ صَدري
أما ابن الرومي فيبدو أنه وجد مخرجاً لوحدته في القراءة فأصبحت سلوته، فأنشد قائلاً:
وَأَنيسِي وَحْدَتي وَكِتابِي
لَم أَجِد لِلأَنامِ وُدّاً صَوابِ
إلا أن هناك، وبالتأكيد، من يتمنى الصمت إذا ما ابتلي بسفيه جاهل مزعج عالي الصوت، لا يتوقف عن هرجه ومرجه، هذا النوع من البشر نصحنا الإمام الشافعي بأن الصمت هو الرد الأمثل عليه، فهو يحفظ كرامة العاقل ويغيظ الجاهل، فقال مؤكداً:
إذا نطق السفيه فلا تجبهُ
فخيرٌ من إجابته السكوتُ
فإن كلمته فرّجتَ عنه
وإن تركتهُ كمداً يموتُ
وأكد أبوتمام أيضاً أن الصمت هو أفضل أنواع الأدب والتهذيب، فقال:
أَبلِغ بَني الدُّنيا جَميعاً وَما بِها
بِأَنَّ السكوتَ أَزينُ الأَدَبِ
وأدلى جبران خليل جبران بدلوه فامتدح قائلاً: الوحدة هي ينبوع القوة، وكلما شربت الروح منها ازدادت قوة، وقال: في الوحدة، يتكلم الصامت، ويصغي الأصم، ويبصر الأعمى.
دوافع الصمت أنواع، فهناك من يصمت عندما يحزن، وهناك من يختار الصمت لكبح جماح غضبه، وهناك من يصمت دهشة من أمر أو إعجاباً بشيء، وهناك من يكون صمته علامة على رضاه، وقد قيل: الصمت علامة الرضى، أما أجمل صمت فهو صمت الحكيم، فهو يصمت ليستمع وليستوعب قبل أن يدلي برأيه.
هناك فعلاً من نتمنى صمتهم في المجالس حتى أننا نعاني وجودهم، وهناك من نبحث عنهم فهم ملحها ومصدر ثرائها، حكمة ومعرفة وثقافة.