تلقّيتُ ردود أفعال متباينة على مقالي السابق الذي انتقدتُ فيه غياب تخصصات العلوم الإنسانية من خطة الابتعاث الخارجي التي أعلنتها وزارة التعليم العالي. وكان أبرز الانتقادات وأكثرها تكراراً أن سوق العمل لا يحتاج إلى خريجي التخصصات الأدبية والإنسانية، فهم متكدسون، ولا حاجة فعلية لهم في الدوائر الحكومية.
وأنا لا أختلف مع هذا الطرح من حيث الواقع القائم، بل أؤكده، لأن سوق العمل الكويتي، كما هو اليوم، لا يُبنى على استشراف المستقبل أو قياس المهارات، بل على التصنيف الإداري للتخصصات الجامعية من قبل ديوان الخدمة المدنية، وتحديد الاحتياجات بناء على الوظائف الحكومية المتوافرة، في ظل نظام توظيف يعتمد على التخصص الأحادي وتطابقه مع مسمى وظيفي ثابت داخل جهاز الدولة.
لكن، وهنا مربط الفرس، فإن هذه الآلية البيروقراطية في فهم «سوق العمل» هي ما أُطالب بتجاوزه، لأني لا أكتب فقط عن سوق العمل كما هو، بل كما يجب أن يكون في زمن الذكاء الاصطناعي.
إن جامعة الكويت، المورد الأكبر لخريجي التخصصات الإنسانية، لا تزال حبيسة نموذج تعليمي تقليدي قائم على نقل المعلومات، لا على بناء المهارات. ولذلك، فإن تكدّس خريجي العلوم الإنسانية في طابور الانتظار الوظيفي هو نتيجة طبيعية لفلسفة تعليم تقيس قيمة الخريج بالشهادة لا بالقدرة، وبالمعلومة لا بالمهارة. إذاً المشكلة ليست في التخصص ذاته، بل في طريقة تدريسه وسياق توظيفه.
إن دعوتي لإدراج تخصصات العلوم الإنسانية في خطة الابتعاث لا تتناقض مع هذا الواقع، بل تنبع منه مباشرة. فأنا أطالب بابتعاث طلبة لدراسة العلوم الإنسانية في جامعات غربية متقدمة، تُدرِّسها بمنهجيات حديثة تركز على المهارات الجوهرية التي نحتاج إليها في مواجهة مستقبل مجهول، تُعيد تشكيله تقنياتٌ قد تخرج عن سيطرة مبتكريها.
إن العالم يشهد تحولات سريعة في بنية الوظائف. فالمحاسب، وفني الأشعة، وموظف الاستقبال، والمبرمج، بل حتى المحامي، قد تستبدلهم الخوارزميات قريباً. فما الذي يبقى للإنسان إذًا؟ تبقى المهارات التي لا تقدر عليها الآلة: التفكير النقدي، والذكاء العاطفي، والوعي الأخلاقي، والقيادة، والقدرة على حل المشكلات، والتكيف مع المتغيرات.
هل يدرك الإخوة في ديوان الخدمة المدنية أو وزارة التعليم العالي أن الوظائف التي نعد أبناءنا لها اليوم، قد لا تبقى موجودة بعد سنوات قليلة؟ هل يعلمون أن المعلومات لم تعد ميزة بشرية، بل باتت متاحة بضغطة زر على أي جهاز ذكي؟ إن القيمة اليوم لم تعد في ما تعرفه، بل في كيف تفكّر بما تعرفه، وفي قدرتك على التعلُّم السريع والمستمر، واتخاذ القرار الأخلاقي، والعمل الجماعي، وفهم الإنسان الآخر. هذه كلها مهارات تبنيها العلوم الإنسانية الحقيقية، لا تلك التي تُلقَّن في قاعات تقليدية، بل تلك التي تُدرَّس بأسلوب حديث، نقدي، ومهاراتي.
باختصار، إن سوق العمل القادم لا يسأل عن مسمى تخصصك، بل عن قدرتك على التكيف، والتفكير، والقيادة. والعلوم الإنسانية، حين تُدرّس بشكل سليم، هي البوابة الأولى لتلك المهارات. لذا، فنحن بحاجة إلى إعادة النظر في فهمنا لماهية «الحاجة الوطنية»، لأننا إذا استمررنا في تجاهل العلوم الإنسانية فسنخرج أجيالاً تعرف كيف تستخدم الآلة، لكن لا تعرف كيف تكون إنساناً في عصر الآلة.