في زمن تتسارع به وتيرة الحداثة، وتذوب به الخصوصيات الثقافية، تظل الأمثال الشعبية أحد أعمدة الذاكرة الجمعية، ومرآة تعكس وعي الشعوب وتصوراتها عن الحياة، إذ هي ليست مجرد عبارات متداولة، بل حكم صيغت من التجربة، وتناقلتها الأجيال شفهياً، فباتت تمثل خلاصات فكرية مكثفة تعبّر عن المواقف، وتفسّر السلوك، وتوجّه القيم.
تعلّمنا الأمثال أن الثقافة ليست محصورة في الكتب ولا محاضن النخبة، بل هي نتاج العوام والبسطاء الذين عايشوا الحياة، واستخلصوا من قسوتها وعذوبتها دروساً أصبحت جزءاً من الموروث.
وإذا كانت اللهجات تختلف، فإن الحكم تتقاطع، حتى بين الشعوب المختلفة والمتباعدة، ففي الكويت مثلاً يقال: «اللي ما يعرف الصقر يشويه»، في إشارة إلى من يجهل قيمة الأشياء فيسيء التصرف بها، بينما يعبر اللبنانيون عن الفكرة ذاتها بقولهم: «اللي ما بيعرفك يجهلك»، أما في الثقافة الغربية فيردد الفرنسيون: «Le prix n’est pas la valeur» بما يعني أن الثمن ليس هو القيمة.
في كل ما تقدم، يتبدّى تحذيرٌ جليّ من الوقوع في فخّ الأحكام السطحية، ودعوةٌ صريحة إلى إدراك قيمة الخبرة والمعرفة، إذ لا نفع في الندم بعد فوات الأوان، ولا طائل من التأسّي على ما لا يمكن استدراكه، حيث يقال في الكويت: «إذا فات الفوت ما ينفع الصوت»، ويوازيه بالتعبير اللبناني: «ما بينفع شي بعد ما يوقع الفاس بالراس»، أو كما يقول البريطانيون: «No use crying over spilled milk».
وربما تكمن خطورة تجاهل الحكمة المتوارثة في تكرار الأخطاء نفسها، رغم تنوّع الأزمنة وتبدّل الوسائل، فحين تُهمل الإشارات المبكرة ويستَخفّ بالمقدمات، تأتي النتائج على غير رجاء، وتُدفع الأثمان مضاعفة. وفي هذا السياق قد يقال إن في «كل تأخيرة خيرة» تعزيةً للنفس حين يقع ما لا يريده المرء، غير أن المثل نفسه ينقلب تحذيراً ضمنياً إن أُسيء فهمه، إذ لا يجوز الركون إلى الانتظار حين يكون الفعل مطلوباً وحين يكون التفريط في الفرص لا يُعوَّض، وهي ذات الفكرة التي يعبّر عنها المثل الإنكليزي: «Opportunity knocks but once»، بمعنى أن الفرصة النادرة قد لا تتكرّر، ومن ضيّعها فقد لا تُتاح له مرة أخرى.
****
وفي السياق، وحتى لا نقول Too Late، وكي لا «يفوتنا الفوت» ونخسر الفرصة الثمينة المتاحة لنا بسهولة، ينبري واجب المسارعة إلى الاستفادة من التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي، ليس كمحطة ظرفية أو كمتعة ركوب الموجات العابرة، بل كفرصة استراتيجية لبناء مستقبلنا بأيد أبنائنا.
ما يميز عالم الذكاء الاصطناعي أنه عالم مفتوح، لا يتطلب لدخوله والإبداع فيه الكثير من الجهد والتكاليف مقارنةً بما كان يتطلبه التقدّم الصناعي الذي فاتتنا فرصة إثبات وجودنا في ميادينه، لاسيما أن هذا الذكاء الآلي لا يُعيد رسم خارطة الواقع فحسب، بل يعيد تعريف مفاهيم الكفاءة والمهارة والمعرفة في سوق العمل العالمي، إذ إن المهارات التقليدية، وإن بقيت ذات قيمة في بعض المجالات، لم تعد كافية لضمان مكانة تنافسية في عالم سريع التحول.
بناء على ما تقدّم، بات المطلوب من بلادنا وشعوبنا العربية تفعيل «الذكاء البشري التكيفي»، أي القدرة على فهم التقنيات الناشئة وتوظيفها، لا باعتبارها أدوات فقط، بل كبُنى معرفية تتطلب فهماً نقدياً ومنهجياً، ومن هنا تأتي ضرورة تمكين شبابنا من التفاعل مع هذه الثورة الرقمية، وبخاصة أنهم يمتلكون القدرة الفطرية على التعامل مع التكنولوجيا والابتكار فيها إذا ما أمنت لهم البيئة المناسبة.
وفي مقدمة ما يقتضي العمل عليه، تطوير المناهج التعليمية، إذ بات ملحاً دمج علوم الذكاء الاصطناعي والبرمجة ضمن المقررات الدراسية من المراحل المبكرة، مع توفير منصات تعليمية رقمية تتيح للطلاب التعلم بشكل تفاعلي، الأمر الذي يجب أن يترافق مع رعاية رسمية وتعاون جدّي مع المؤسسات التعليمية العالمية لإنشاء برامج تدريبية متخصصة، ودورات تعليمية مفتوحة باللغة العربية، لتوجيه الشباب إلى كيفية استخدام هذه التقنيات وتطويرها بدلاً من الاكتفاء باستخدامها في ميدان الترفيه والتسلية والألعاب التي تفتقر الى الابتكار والإبداع.
ولئن كان ذكاء الآلة مهما بلغت مراتبه لا ولن يبلغ الذكاء البشري، فإن شبابنا أولى بأن يتعلّموا ليعلِّموا هذه الآلات كيف تخدمهم وتخدم مجتمعاتهم، لا أن يبقوا خمولين متلقين لا فاعلين ولا مبدعين.