يشكِّل مشروع الجينوم الإماراتي أحد أبرز المبادرات الصحية والعلمية في منطقة الشرق الأوسط، ويُنظر إليه باعتباره نموذجاً طموحاً لتحويل الرؤية الوطنية نحو «الطب الدقيق» إلى واقع ملموس.

في جوهره، يسعى هذا المشروع إلى تسخير العلم والتكنولوجيا لخدمة الإنسان، عبر فهم الخريطة الجينية للسكان الإماراتيين، مما يتيح بناء نظام صحي أكثر دقة وفاعلية وتكلفة.

المشروع أُطلق رسمياً عام 2019 بقيادة دائرة الصحة في أبوظبي، وبشراكة استراتيجية مع مجموعة 42، إلى جانب تعاون مؤسسات أكاديمية وطنية، مثل جامعة خليفة. وقد وضع هدفاً طموحاً يتمثل في تسلسل وفهم الجينوم الكامل لما يصل إلى مليون مواطن إماراتي.

Ad

ووفقاً للتقارير الرسمية الصادرة في أبريل 2025، نجح المشروع حتى الآن في جمع أكثر من 800.000 عينة، مقترباً من تحقيق هدفه النهائي، ليصبح من أضخم مشاريع الجينوم على مستوى العالم.

الهدف المركزي لهذا المشروع يتمثل في تحسين جودة الرعاية الصحية، من خلال بناء قاعدة بيانات جينية تعكس الخصائص الوراثية الفريدة لسكان الدولة. هذا الفهم الدقيق يسمح بالتعرف على الطفرات الجينية المرتبطة بأمراض، مثل: السكري، وأمراض القلب، والسرطان، والأمراض النادرة، بما يفتح الباب نحو الطب التنبؤي، والوقاية الشخصية، والعلاج المصمَّم خصوصاً وفقاً لتركيبة الجينات لكل فرد.

في ظل وجود معدلات عالية من الزواج بين الأقارب في المجتمعات الخليجية، فإن مشروع الجينوم الإماراتي يشكِّل أداة مهمة لفهم الوراثة المجتمعية، والكشف المبكر عن الأمراض المتنحية، وتوجيه برامج الفحص قبل الزواج والفحص المبكر للأطفال. وقد تم إطلاق المنصة المرجعية للجينوم الإماراتي، التي تُعد أداة علمية مهمة جداً لتقييم الطفرات الجينية محلياً، ومقارنتها بالسياق الإماراتي، بدلاً من الاعتماد على قواعد بيانات عالمية لا تعكس الخصوصية الجينية للمنطقة.

إضافة إلى ذلك، أُطلقت الاستراتيجية الوطنية للجينوم لتأطير الجوانب التشريعية والتنظيمية للمشروع، وضمان حماية خصوصية البيانات الجينية للأفراد. تشمل هذه الاستراتيجية أيضاً خططاً لتأهيل الكفاءات الوطنية، وتطوير المناهج التعليمية، من أجل تمكين جيل جديد من الباحثين والمتخصصين في علوم الجينوم والذكاء الحيوي.

من الجانب الاقتصادي، يمثل المشروع بوابة لتعزيز الاقتصاد المعرفي في الدولة. فقاعدة البيانات الضخمة التي يتم إنشاؤها تتيح فرصاً للتعاون مع شركات الأدوية العالمية ومراكز البحث المتقدمة لتطوير علاجات مبتكرة موجهة مبنية على الأساس الجيني لسكان الإمارات. وقد بدأت بعض شركات التكنولوجيا الحيوية بالفعل في استكشاف الشراكات مع الجهات الإماراتية، مما يعزز من مكانة الدولة كمركز عالمي في مجال الطب الجينومي والتقنيات الحيوية.

ورغم التحديات المرتبطة بجمع البيانات على نطاق وطني واسع، فإن المشروع يحظى بثقة مجتمعية متزايدة، مدفوعة بالوعي بأهميته المستقبلية في حماية الصحة العامة، وتحقيق العدالة العلاجية بين الأفراد. فالرعاية الطبية المستقبلية لن تعتمد فقط على الأعراض، بل ستستند إلى البصمة الجينية لكل فرد، وهو ما يتيح تشخيصاً أدق، وعلاجاً أكثر فاعلية، ووقايةً تبدأ قبل ظهور المرض.