نعجن أبناءنا للنجاح... ونُخرجهم فارغين
عقولٌ مُخمّرة بالضغط... وأرواحٌ بلا نكهة
في مدارسنا، يُعامَل الطفل كما تُعامَل العجينة، يُعجن بمنهج موحّد، يُضغط بتقييم نمطي، ويُخبَز في فرن الامتحانات على درجة حرارته المقرّرة مسبقاً. ثم يُخرج إلى العالم على هيئة «رغيف متفوق»... هشّ الفكر، خالٍ من الطموح، لا يعرف لماذا صُنع ولا كيف يُؤكل!
هل النجاح أن تُصبّ في قالب؟ أم أن تُخبز على نار الشغف والمعنى؟
وهل نُريد أبناءنا ناجحين... أم فقط جاهزين للإخراج المدرسي؟
طفلٌ سأل أمّه يوماً: لماذا السماء زرقاء؟
وبعد عامين من المقررات، صار يسأل: كم علامة سأخسر إن نسيت نقطة في التعريف؟
هكذا ننتقل من سؤال الكون... إلى سؤال الدرجات.
من دهشة العقل... إلى قلق الامتحان.
من حبّ المعرفة... إلى رُهاب الخطأ!
في دراسة نُشرت في Psychology of Education Review، أقرّ 68 بالمئة من طلاب «الثانوية» في الخليج بأنهم يشعرون أن «النجاح المدرسي لا يعكس قدراتهم الحقيقية»، و59 بالمئة عبّروا عن فقدان الشغف بالتعلّم مع مرور السنوات.
النجاح إذًا تحوّل من حالة وعي... إلى حالة إنجاز رقمي.
نُلقّن أبناءنا كيف ينجحون... لا لماذا.
نُعلّمهم كيف يجيبون... لا كيف يسألون.
نُدخِلهم مدرسة، ونُخرِج منهم نُسخاً متشابهة... لا أفراداً متفردين.
نجاحهم مصمَّم ليُرضينا... لا ليشبههم.
ولذلك تراهم حين يكبرون، يُتقنون التقديم الشكلي، يكرهون الفشل، ويخافون ارتكاب فكرة!
يتردد أحدهم قبل أن يُجيب عن سؤال وجودي بسيط «ماذا تحب أن تكون؟»
جيل من الأوائل... لكن بلا أوّل فكرة تخصّه.
يحملون الشهادات كما تُحمل قوالب الخبز... متشابهة، مطابقة، لكن بلا طعم.
ثم نفاجأ حين يسقط المتفوق في أول اختبار حياة، أو يذوب المتفائل في أول شك ذاتي، أو يرتبك الناجح أمام أول مشروع يتطلب قراراً حقيقياً!
ونسأل بدهشة: «لماذا انهار؟ ألم يكن من المتفوقين؟»
نحن لا نعد أبناءنا للنجاح... بل نُهيئهم لقبول نجاح غيرهم.
نجاح محفوظ، مقبول، مكرر... لكنه لا يُشبههم.
نجاح لا يصدر من داخلهم... بل يُصبّ عليهم من الخارج.
إننا لا نمنح أبناءنا فرصة الاحتراق الذاتي، لا بمعنى الهلاك، بل بمعنى التحوّل!
فكل نضج حقيقي يحتاج ناراً من الداخل، لا فرناً رقابياً من الخارج.
فيا من تضع القوالب،
خفّف يدك عن العجينة... واترك لها شكلها الإنساني.
دع أبناءنا يخبزون مستقبلهم بحرارة اختيارهم... لا على حرارة رضاك.
وهنا تكمن المفارقة:
كلما أحكمنا القالب... ضعف الخبز!
وكلما ضيّقنا المسار... تاهت الروح.
فالإنسان لا يُنتج بالإجبار... بل بالاكتشاف.
والتفوق الحقيقي لا يُعلّب... بل يُختمر بالمعنى والحرية والخطأ.