في لحظة لبنانية دقيقة وتوقيت إقليمي- عربي سمته الترقب، ومساره التحوُّلات الكبرى، تحمل زيارة فخامة الرئيس اللبناني جوزيف عون إلى دولة الكويت أبعاداً سياسية تتجاوز الإطار البروتوكولي والعلاقة الودية بين بلدين شقيقين.
تُعد هذه الزيارة هي الأولى من نوعها منذ سنوات، وتأتي في إطار السياسة الخارجية التي تبنَّاها العهد الجديد في لبنان، بهدف تصويب المسار في العلاقة مع دول الخليج العربي والكويت، التي رغم ما قد يعتريها من عتب، احتفظت بدورها المتفرِّد كدولة تملك قدرة المبادرة دون صخب، وتتمتع بدبلوماسية هادئة توازن بين الدعم الثابت، والموقف الهادئ، والعروبة الأصيلة.
وقد بدا واضحاً أن الزيارة، التي جاءت بدعوة رسمية من حضرة صاحب السمو أمير الكويت، تعكس انفتاحاً حقيقياً من القيادة الكويتية على الحماسة اللبنانية لإعادة وصل ما قد انقطع خلال فترة الانكفاء القسرية، وصوغ مرحلة جديدة عنوانها التفاهم البنَّاء والتعاون المسؤول، ومقاربة لبنان كشريك موثوق، لا كحالة مستعصية أو كخطر محتمل، بما يتماهى مع الدينامية الخليجية الساعية إلى استقرار عربي وإقليمي شامل.
***
لقد بات من الواضح، في مواقف متكررة صادرة عن الجانب الرسمي اللبناني في أكثر من مناسبة - وكان آخرها المقابلة التلفزيونية التي أجراها فخامة رئيس الجمهورية اللبناني مع تلفزيون دولة الكويت عشية زيارته - أن الملفات المطروحة بين الجانب اللبناني وأشقائه العرب والخليجيين تشير إلى انتقال تدريجي من منطق الدعم أحادي الجانب إلى منطق الشراكة المستدامة.
ففي السنوات الماضية، كانت الكويت - كما شقيقاتها في دول الخليج - سبَّاقة في الوقوف إلى جانب لبنان في فترات الأزمات الكبرى، سواء عبر الصندوق الكويتي للتنمية، أو من خلال جمعياتها الخيرية وحملات الدعم الشعبي، لا سيما فيما يخص لملمة جراح العدوان الإسرائيلي المتكرر، وكارثة انفجار مرفأ بيروت. وهي دائماً على استعداد لتكرار مثل هذه الوقفات، لكن وفق منطق أكثر استدامة ورؤية تنموية بعيدة المدى، بما يلتقي مع منطق العهد الجديد وسياسة حكومة «نواف سلام»، التي تعمل على تنظيم ملفاتها وترتيب أولوياتها لمقاربة العلاقات اللبنانية-الخليجية بمنطق الشراكة التنموية.
وعلى المستوى الشعبي، تكتسب الزيارة بُعداً إضافياً يتجاوز الأطر الرسمية، إذ تلتقي أهميتها مع المزاج الخليجي الإيجابي تجاه لبنان بشكل عام، وتجاه أداء الجاليات اللبنانية المقيمة في دول الخليج، لا سيما في الكويت، التي شكَّلت الجالية اللبنانية فيها نموذجاً يُحتذى به من حيث الانضباط، والاندماج الإيجابي، والمساهمة الفاعلة في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما رسَّخ صورة لبنان في الوعي الخليجي كبلد يملك طاقات بشرية مؤهلة وقادرة على الإسهام البنَّاء حين تتوافر البيئة السليمة.
هذا الدور الشعبي الموازي يُعيد الاعتبار للعلاقات الإنسانية، بوصفها رافعة أساسية لأي تقارب سياسي أو تعاون مؤسسي، ويضفي بُعداً إنسانياً وجدانياً على أي مبادرة دبلوماسية، خصوصاً حين تتلاقى المصالح مع الثقة المتبادلة والاحترام المشترك.
من جانب متصل، لطالما شكَّل لبنان حجر الزاوية في التفاعل السياسي والاقتصادي والثقافي بين الحضارات المختلفة، حيث حافظ على دوره التقليدي كجسر بين الشرق والغرب، وكمصدر للإبداع والابتكار في مجالات التعليم والثقافة، والفن والإعلام، والاقتصاد والتكنولوجيا، مما جعله محط اهتمام الأصدقاء والأشقاء كركيزة أساسية للتعاون التنموي وتعزيز الهوية المشتركة.
من هذا المنطلق، لا تقتصر العلاقة بين لبنان ودول الخليج على الدعم المالي أو المساعدات الإنسانية، بل تمتد إلى أبعاد استراتيجية تشمل التعاون في مجالات التعليم، والتدريب المهني، والتبادل الثقافي. ولا شك في أن لبنان، بموقعه الجغرافي وتاريخه السياسي والاقتصادي، سيظل يشكِّل منصة انطلاق للمبادرات التكاملية الهادفة، ولديه القدرة على استقطاب وتصدير الاستثمارات ذات القيمة المضافة في ظل انفتاحه المتجدد.
***
في المحصلة، لقد عبَّرت حرارة الاستقبال وبلاغة التوقيت عن حقيقة العلاقة المتجذرة التي تربط الكويت بلبنان، الذي رغم جراحه وتحدياته، لا يزال يجد في دول الخليج عامة، والكويت خاصة، مرفأً آمناً وصديقاً موثوقاً، ويدرك في نفس الوقت أن دول الخليج، رغم كل ما قد يعتريها من حذر مشروع، لا تغلق أبوابها أمام مَنْ يمد يده بصدق، ويسعى إلى شراكة تقوم على الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة.
* كاتب ومستشار قانوني