مضى اليوم العالمي لحرية الصحافة كما باقي الأيام والمناسبات، هو يوم أو أقل، قال كثيرون لاسيما المسؤولين منهم كلمتهم ومجدوا بالطبع في إنجازاتهم في هذا المجال الحيوي، ومضى اليوم كسولاً كما خطاباتهم باهتاً وبعيداً جداً عن تلك المؤشرات العالمية التي وضعت الدول في قائمة كانت حتى قبل بعض الوقت مهمة لأكثر الأنظمة تعنتاً وقلة احترام للاتفاقيات والحقوق والمبادئ المتعارف عليها دولياً.

حظيت المناسبات المرتبطة بحرية الصحافة أو الإعلام أو التعبير باهتمام بالغ وتذكير دائم ومحاولات من الصحافيين الأحرار أو من تبقى منهم للتذكير بدور الصحافة الحرية وحرية التعبير ونقل الخبر والمعلومة في بناء المجتمعات بل الدول. فمنذ أن أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1993 وفقا للتوصية التي اعتمدها المؤتمر العام لليونسكو في دورته السادسة والعشرين التي عقدت في عام 1991، وبناء على نداء أطلقه الصحافيون الأفارقة كان أن أصبح شهر مايو موعداً للتذكير بأهمية حرية الصحافة والدفاع عن تلك الحرية التي لطالما كانت أول ضحايا الأنظمة الفردية أو الاستبدادية، كما أن الحقيقة هي أول ضحايا الحروب.

Ad

وفي كل عام يحتفل أو يتم التذكير بحرية الصحافة عبر التركيز على موضوع محدد في هذا العام كان «حرية التعبير وتحدي مواجهة ثورة الذكاء الاصطناعي»، حيث عبر المسؤولون في الأمم المتحدة والمعنيون بحرية الصحافة ومنهم مراسلون بلا حدود عن أن مبادئ الإعلام الحر والمستقل والتعددي لا تزال على نفس درجة الأهمية إلا أن هناك تأثيرا كبيراً للذكاء الاصطناعي على جمع المعلومات. وهنا أصابوا جميعاً وكان أن فضحت غزة أيضاً ذاك التأثير عندما جرب الكثيرون سؤال «شات جي بي تي» عن غزة وفلسطين أو جنوب لبنان، فلم تكن هناك إجابات رغم أن الموت كان سيد المشهد والإبادة مستمرة والصحافيون الفلسطينيون يقدمون التضحية تلو الأخرى لنقل الصورة.

بقي الذكاء الاصطناعي بعيداً عن حرب الإبادة وتوقف عند ما يقوله الإعلام الصهيوني. ولكن لم يكن شات جي بي تي هو المتهم الأول عندما وقف البشر وخصوصاً الصحافيين منهم بل رؤساء التحرير والكتاب المشاهير منهم والشهرة هنا لا علاقة لها بقدرتهم المهنية العالية طبعا، وقفوا هم يمارسون انبهارهم بـ«الحرية» المتوفرة لهم للنشر، والمواطن القارئ يطالع عناوينهم المتشابهة والفقرات التي تتوقف عند نفس الحرف والنقطة حتى عرف أن المصدر واحد وأن الصحافيين الآن لا يملكون القدرة أو الجرأة أو حتى الرغبة في وضع عنوان مختلف بنفس معنى ما وصله من تلك المصادر «الموثوقة» جداً جداً.

حتى لا نصاب بالوهم فلم تكن هناك حرية للصحافة والإعلام، كما تصورها من هم قبلنا من الصحافيين المؤمنين بمهنتهم، ولا كما وضعتها كتب كليات الصحافة والإعلام والتي تزعمتها تلك المهيمنة في الولايات المتحدة التي بقيت تنادي بالحياد حتى صدقناهم إلى أن عملنا بمؤسساتهم ووكالات أنبائهم التي هي من تغذي كل العالم بالأخبار والمعلومات هل كانوا دقيقين ومحايدين كما علمونا؟ بالطبع لا فلم يكن الذكاء الاصطناعي محايداً وكل من يشرف على إدخال المعلومات له هو غير محايد أصلاً؟

أما في دولنا «المستوردة» لكل شيء حتى النظريات والمانشيتات وغيرها، فقد بقيت محافظة على طابعها التقليدي إلا في المظهر، تحولت الصحف والمحطات إلى شكل من أشكال الحداثة فيما المضمون تقليدي وفي كثير من الأحيان قبلي، مغلق ومحافظ ويؤمن بأن صناع الأخبار هم المسؤولون فقط، أما غيرهم فلا هم مصدر للخبر ولا هم مادة لعنوان.

يسألني كثير من الأصدقاء غير الصحافيين في كل صباح «هل قرأت الصحف العربية اليوم؟» ولا ينتظرون الإجابة فيستعجلون لإرسالها كاملة أو عناوين صفحاتها الأولى، ويكون ردي لم الاستغراب وقد تحولت كلها إلى «مسطرة» واحدة تنتظر الخبر ليأتي وحده بعنوانه وتفاصيله وفقرته الأساسية وووو وما عليهم سوى قطع ولزق وطبع!!! وباقي الصحافيين الشباب السعداء بلقب أو صفة «صحافي» أو «مراسل» يتجولون دون خبرة أو دراية أو من يرشدهم ببعض خبرته فينتهوا مثلهم مثل صناع المحتوى على السوشيال ميديا يبحثون عن الإثارة التي لا تجلب التأنيب ولا تبعدهم كثيراً عن ذاك الكرسي العالي، كرسي رئيس التحرير أو محرر الصفحة وو. لا بحث خلف الخبر ولا تعب في الطرقات وبين الأسطر للبحث عن الحقيقة... أصبحت كلها صحافة اللون الواحد بعيدة جداً عن الحرية إلا في ذاك اليوم من شهر مايو، حيث «يتشدقون» فرحاً بحريتهم في المهنة، ولا يتابعون موقعهم على سلسلة الدول التي تتقلص فيها حرية الصحافة حتى تنعدم، مثل القائمة التي تصدرها منظمة «مراسلون بلا حدود»، حيث معظمنا، أي معظم دولنا العربية، في ذيل القائمة... يا فرحتي!!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية