بمناسبة ما قيل عن تسريب فيديو للرئيس عبدالناصر قبل رحيله يكفر فيه بالقومية العربية، ويعلن تخلّيه عن القضية الفلسطينية، يثير هذا الفيديو كثيرا من القضايا والإشكاليات لعل أهمها:
أولًا: كيف تُقرأ الوثائق والنصوص والمادة العلمية التى سنُبتلى بها في زمن الذكاء الاصطناعي؟
ثانيًا: من المنوط به قراءة وتفسير مثل هذه النصوص؟
ثالثًا: حقيقة موقف عبدالناصر من القضية الفلسطينية وقضية اللاجئين بعد حرب 1948، وهل حقيقة كفر بها وغيّر موقفه من إسرائيل بعد المؤامرة الأميركية - الإسرائيلية - العربية في يونيو 1967؟
***
الحقيقة أن قراءة الوثائق والمخطوطات وأي مادة علمية تعالج أي قضية تاريخية، علم وفن يقوم به الباحث المحترف الذي تدرّب على ذلك طوال دراساته في الجامعة، ودراساته العليا وإعداده للماجستير والدكتوراه وأبحاث ما بعدهما، في علم التاريخ.
وقراءة الباحث المتخصص تختلف عن قراءة السياسي، سواء كان مؤيدًا لعبدالناصر أم معارضًا له أو لغيره، وهي تختلف أيضًا عن قراءة أساتذة العلوم السياسية، وكُتّاب الدراما التاريخية.
وبالطبع، تأتي قراءة وتفسير الوثائق والنصوص بعيدة تمامًا عن الحقيقة التاريخية، بل ومضللة، إذا ما تناولها أعداء عبدالناصر، وهنا يكون تأويل النص مقصودًا به تشويه التاريخ والنَّيل من تجربة ثورة 23 يوليو، وتوجيه اتهامات باطلة. ولا تختلف القراءات التي تخطئ بغير قصد في أثرها عن قراءة قوى الثورة المضادة وأعداء التجربة، جميعها يرتكب جريمة تشويه ذاكرة الأمة.
***
أما الفيديو الذي قيل إنه مسرَّب وغير حقيقي، فهو حقيقي وجزء من وثائق عبدالناصر، وتوجد عدة نسخ ورقية منه، والمشكلة أنه مجتزأ من السياق العام، ولا يجوز تفسيره بمعزل عن الوثائق التي تتناول موقف عبدالناصر من القضية الفلسطينية. ورغم اجتزائه يفهمه المتخصص بيُسر، المتخصص الذي تابع اغتصاب إسرائيل لأرض فلسطين، ورفض مصر قبل الثورة وبعدها لضياع أرض عربية واغتصابها على يد عصابات صهيونية لخدمة أغراض استعمارية، وتهجير الأشقاء الفلسطينيين وسرقة بيوتهم وتاريخهم. يفهمه المتخصص الذي تابع موقف إسرائيل من ثورة 23 يوليو، وموقف الولايات المتحدة والغرب المنحاز لإسرائيل.
لقد شاركت مصر في حرب 1948 مع الدول العربية، وبسبب الخيانة وعوامل أخرى كثيرة هُزم العرب، وقامت ثورة 23 يوليو1952، وحدد عبدالناصر موقفه بوضوح، بعد أن أصبحت إسرائيل (أمرًا واقعًا) وكيانا مدعوما من الغرب، ومعترفا به بمقتضى قرارات الأمم المتحدة، خاصة القرار رقم 181 الذي صدر يوم 29 نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين، إحداهما عربية والأخرى يهودية، وهو كيان معترف به أيضًا من إيران وتركيا كدول إسلامية كبيرة، وغيرها من الدول. ومن ناحية أخرى كانت معاهدة رودس التي وقّعت بتاريخ 24 فبراير 1949 بعد هزيمة 1948 لتنظم العلاقة بين الدول العربية وهذا الكيان، والمعروف أن المعاهدات تورث ولا تنكرها الحكومات الجديدة. ولم تنكرها مصر قبل ثورة يوليو ولا بعدها.
تخوفت إسرائيل من مصر بعد ثورة 23 يوليو، وبعد وضوح موقف عبدالناصر ونجاحه في عقد اتفاقية الجلاء وكسر احتكار السلاح، لذلك تآمرت وشاركت في العدوان الثلاثي 1956، ثم جاءت المؤامرة الكبرى عام 1967، واحتلت إسرائيل سيناء والجولان والضفة الغربية.
وبعد الموقف التاريخي للشعب المصري والشعوب العربية (9 و20 يونيه) قرر عبدالناصر الانتقام واسترداد الأرض العربية، ورفض إعادة سيناء مقابل تخليه عن القضية الفلسطينية، وأعاد بناء الجيش المصري، وخاض حرب الاستنزاف، وصرخت إسرائيل، وطالبت أميركا بالتدخل لتوقف مصر الحرب (التي انتصرت فيها بشهادات قادة إسرائيل أنفسهم) وعرض وزير الخارجية الأميركي مبادرة روجرز لوقف إطلاق النار قبلتها إسرائيل وقبلها عبدالناصر، كانت فرصة ذهبية لمصر لتحرّك حائط الصواريخ إلى الجبهة.
كان عبدالناصر قد أعاد بناء الجيش وأعد العدّة للثأر والانتقام واسترداد الأرض، وجربت خراطيم المياه التي ستُستخدم لنسف خط بارليف، وأعدت الخطة جرانيت بالفعل للعبور، لكن كان ينقص الجيش المصري بعض الأسلحة، ولذلك لم يكن الوقت مناسبًا أواخر 1969 وطوال 1970 للعبور، حتى بعد إسقاط الطائرات الإسرائيلية ومنعها من تهديد العمق المصري.
لم يكن عبدالناصر قادرًا على إعلان أن الجيش المصري لا يزال يستعد، وأنه قبل المبادرة ليستكمل بناء حائط الصواريخ، وفي الوقت نفسه كانت المخابرات المصرية قد نقلت له المواقف المخزية لبعض الدول العربية التي يتشدّق حكامها بالقومية العربية وهم لا يؤمنون بها، وبعضهم يصنّف على أنه يتاجر بالقضية الفلسطينية، وهؤلاء حرضوا بعض الفلسطينيين ضده، وهاجموه، وضغطوا عليه ليتخذ قرار الحرب، فلتحارب مصر لآخر جندي مصري، وهم يجلسون في مقاعد المتفرّجين، ويحاولون إقناع شعوبهم الأصيلة بأن مصر لا تريد الحرب.
من هنا جاءت فضفضة عبدالناصر الغاضبة مع الشاب الثائر وقتئذ، العقيد معمر القذافي، وما جاء فيه يتسق مع موقف عبدالناصر، وأولويات بلاده استرداد الأرض العربية أولًا بالقوة، ورفض العروض الأميركية والإسرائيلية إعادتها مقابل تخليّه عن القضية الفلسطينية، وبعد ذلك التمسك بقرار الأمم المتحدة بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم وإعادة اللاجئين.
ولم يتغيّر موقف مصر بعد رحيل عبدالناصر وحتى اليوم، رغم ما جرى من مياه كثيرة في نهر العلاقات المصرية - الإسرائيلية، حيث يحافظ الرئيس عبدالفتاح السيسي (مؤسس الجمهورية الثالثة أو الجديدة) على حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، ويرفض تهجير أهالي غزة حتى لا تموت القضية الفلسطينية.
* أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس
محاضر بالأكاديمية العسكرية