تواجه الكويت اليوم أزمة هوية سياسية وأيديولوجية تتجاوز نطاق السياسات الداخلية إلى التأثر المباشر والعميق بالتحوُّلات التي يشهدها النظام العالمي. ففي الوقت الذي تُعيد القوى الكبرى رسم الخرائط الجيوسياسية والاقتصادية، وتتشكَّل تحالفات وصراعات جديدة، تبدو الكويت وكأنها تقف على هامش هذا التغيُّر، مشلولةً بإرث من الجمود السياسي، وصراع تيارات فقدت معناها، ودولة بلا مشروع وطني واضح.
منذ الحرب الروسية - الأوكرانية، وصعود الصين، وتراجع الهيمنة الأميركية التقليدية، والعالم يمر بتحوُّل بنيوي نحو نظام دولي متعدِّد الأقطاب. هذه التحوُّلات تفرض على الدول الصغيرة والمتوسطة أن تُعيد تعريف موقعها، واستراتيجياتها، وهويتها السياسية الداخلية. الدول التي تدرك ذلك، تُسارع إلى صياغة رؤى وطنية جديدة.
في المقابل، تقف الكويت جامدة، غير قادرة على طرح مشروعها السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، وغير منخرطة في إعادة تموضعها الإقليمي أو العالمي.
في عقود مضت، كانت الكويت ساحة حيوية للتعددية السياسية: التيار القومي، والتيار الإسلامي، والتيار الليبرالي، وحتى اليسار. لكل تيار مشروع وفكر وجمهور. لكن اليوم، تحوَّلت هذه التيارات إلى ظلال هشة، مأزومة، فقدت أدواتها، وخسرت قدرتها على التأثير، فالإخوان تراجعوا بعد انكشاف مشروعهم في الإقليم، والسلفيون أصبحوا جزءاً من المنظومة المحافظة، والقوميون تبخروا بانهيار سرديتهم العربية، والليبراليون اختُزلوا في صراعات نخبوية غير مؤثرة.
لم تعد هناك حركات، بل أفراد. لم تعد هناك مشاريع، بل مصالح. تفكك التيارات لم ينتج تنوعاً صحياً، بل أحدث فراغاً أيديولوجياً عميقاً، ملأته الطائفية والقبلية والانتماءات الفرعية، تحت سمع وبصر الدولة، بل أحياناً بدعمها الصامت.
أخطر ما في المشهد أن الدولة الكويتية نفسها لا تقدِّم سردية سياسية جامعة. لا يوجد خطاب وطني جديد يعكس التحديات العالمية، أو يطرح الكويت ككيان له هوية مستقلة ومصير مشترك. ما زال الخطاب الرسمي يدور في فلك الريع والمكرمات والتوازنات القديمة، في وقت تشتد الحاجة إلى تعريف جديد للدولة والمواطنة والدور الإقليمي.
هذا الغياب جعل المواطن الكويتي يشعر بالعُزلة السياسية. لا يملك صوتاً مؤثراً، ولا دوراً واضحاً، ولا قناة منظمة للتعبير عن تطلعاته. في ظل غياب الأحزاب، وانغلاق الفضاء العام، وانهيار الثقة بالمؤسسات، يعيش المجتمع في حالة من «اللا انتماء السياسي»، تتغذى على خيبات الماضي وغموض المستقبل.
الخروج من هذه الأزمة لا يبدأ من البرلمان، ولا من الحكومة، بل من صياغة مشروع وطني شامل يجيب عن أسئلة الوجود السياسي: مَنْ نحن؟ ماذا نريد؟ ما هو شكل دولتنا؟ وما هو دورنا في الإقليم والعالم؟
هذا المشروع لا بد أن يستند إلى:
• إعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس المشاركة.
• إعادة الاعتبار للتيارات الفكرية، وتشجيع التنظيم السياسي المنفتح.
• وضع رؤية استراتيجية تتفاعل مع النظام العالمي الجديد لا تنعزل عنه.
• تحرير الإعلام والثقافة والتعليم، لتصبح أدوات وعي، لا أدوات تكرار.
خاتمة:
أزمة الهوية السياسية والأيديولوجية في الكويت ليست وليدة اللحظة، لكنها تتفاقم في لحظة عالمية فارقة. العالم يُعيد ترتيب نفسه، والمستقبل يُكتب الآن، والكويت مهدَّدة بأن تظل على الهامش إن لم تتحرَّك، ولا بد من شجاعة فكرية وسياسية لإعادة تعريف الدولة.