في لحظة محفوفة بالمخاطر، يبدو أن الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية يمران في آنٍ معاً بما يشبه «تحولاً جيولوجياً بطيئاً» في طبقات النظام العالمي، والسبب في ذلك لا يعزى لحدث واحد، بل إلى تراكم موجات متداخلة من القرارات الأحادية، والأزمات المصطنعة، والصراعات المتكررة، إضافة الى خليط من التبدلات الجيوسياسية والتطورات التكنولوجية التي تعيد تشكيل ملامح العلاقات الدولية والأنظمة الاقتصادية.

فما بين سياسة رفع الرسوم الجمركية الأميركية على وارداتها من كل الدول - بما فيها الحليفة - إلى الاضطراب المتزايد في أسواق الأسهم وخصوصاً أسهم شركات التكنولوجيا المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية، مروراً بالارتفاع القياسي في أسعار الذهب، وصولاً إلى التحولات الكبرى في الحرب الروسية - الأوروبية وفي الشرق الأوسط، تبدو الأسئلة أكثر من الأجوبة، ويبدو اليقين أقل وضوحاً من الريبة.

Ad

اقتصاد عالمي على حافة الاصطفاف

تشير السياسات الاقتصادية والجمركية التي تنتهجها إدارة الرئيس الأميركي إلى تحوّل واضح عن عقيدة التجارة الحرة التي قادت الاقتصاد العالمي منذ عقود، مما يعكس ميلاً متزايداً نحو نهج قائم على الاكتفاء الاستراتيجي وإعادة التموضع الصناعي، بما ينسجم مع رؤية أميركية جديدة تهدف إلى تقليص الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية، وتعزيز التصنيع المحلي.

الصين أمام هذا الواقع لم ولن تقف مكتوفة اليدين، إذ جاء ردها السريع على شكل سلسلة من الإجراءات الاقتصادية والمواقف السياسية، تتصل بفرض رسوم مقابلة، مع مساع متزايدة لتوسيع مروحة التعاون مع دول «الجنوب»، إضافة إلى تعميق التحالفات الاستراتيجية مع كل من روسيا والشرق الأوسط، في مسعى لتشكيل محور اقتصادي موازٍ يتحدى التفوق والتفرّد الأميركي.

في المقابل، تبدو أوروبا وكأنها عالقة في المنتصف، تتأرجح بين ضغوط العملاقين دون أن تمتلك أوراق ضغط حقيقية على الطاولة، فالعجز الذي يبدو أنه يصيب اقتصاد القارة العجوز، وتفاوت المصالح بين العواصم الأوروبية، جعلا الموقف الأوروبي هشّاً أمام الموجات المتتالية من التصعيد الأميركي - الصيني.

في ظل هذا السياق المتوتر، تبرز تقلبات أسواق الأسهم العالمية لتفضح هشاشة النموذج الاقتصادي السائد، إذ باتت حركة أسهم كبرى شركات التكنولوجيا تتأثر بشدة بأي تصريح سياسي، أو إشاعة إعلامية، أو حتى تجربة خوارزمية جديدة، مما يعكس تضخماً واضحاً في قطاع الذكاء الاصطناعي الذي رغم التحذيرات المتزايدة من المخاطر الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة به، لا يزال الاستثمار فيه يجذب مئات المليارات من الدولارات، مدفوعاً بوعود الربح السريع، وآمال التفوق والهيمنة التكنولوجية.

الشرق الأوسط... بين مساعي التهدئة والتطبيع القسري.

في ظل كل ذلك، يشهد الشرق الأوسط واحدة من أكثر لحظاته تقاطعاً بين التحولات الداخلية والضغوطات الخارجية، ففي حين تتحرك بعض العواصم العربية نحو استعادة التوازن العقلاني والتهدئة الإقليمية، يحاول الكيان الإسرائيلي، بدعم دولي - أميركي غير مشروط، فرض نمط من التطبيع بالقوة، بِرِهان وقح على نهج التدمير والتهجير الذي يأمل من خلاله كسر الإرادة الفلسطينية وتفكيك وحدة الموقف العربي.

أبرز معالم التحول الشرق أوسطي تتجلى في إعادة الحرارة إلى مسار المفاوضات الأميركية - الإيرانية، واستئناف العلاقات السعودية الإيرانية، في مشهد رمزي يعبّر عن تغير قواعد اللعبة التي ترجمت بنهج واضح تتبعه بعض العواصم الخليجية – مثل الرياض ومسقط والدوحة – للعب دور الوسيط أو «الحياد الذكي»، في نزاعات كبرى كالحرب في أوكرانيا والملف النووي الإيراني، الأمر الذي يرتبط - بشكل أو بآخر - بما تشهده عواصم عربية أخرى كبيروت ودمشق من تحولات دقيقة ترتبط بالاستحقاقات السياسية والميدانية، وبمآلات المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن التي تجري بهدوء عبر القناة العمانية.

بين الهوية والمصلحية... كيف يُصاغ القرار العربي؟

في ظل هذا المحيط المتلاطم من التحولات الكبرى، تشهد دوائر القرار العربي جدلاً متجدداً حول معادلة معقدة ركيزتها سؤال محوري: كيف يمكن تحقيق التوازن بين الاعتبارات الهوياتية والثوابت القومية من جهة، ومتطلبات المصالح الاستراتيجية والاقتصادية من جهة أخرى؟

هذه التساؤلات الكبرى لم تعد نظرية، بل باتت تمس خيارات يومية تتعلق بالسياسة الخارجية، والتحالفات الدولية، والمواقف الرسمية، فهل يمكن الحفاظ على المبادئ راسخة دون الانزلاق نحو عزلة خانقة؟ وهل الانفتاح على الخصوم أو الأعداء التقليديين - مثل إيران، أو إسرائيل، أو القوى الشيوعية السابقة كالصين - هو مجرد مناورة مؤقتة، أم جزء من رؤية طويلة الأمد لإعادة تموضع العالم العربي؟

في ظل هذا التحول، يشهد العالم العربي تبدلاً تدريجياً في الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي، إذ إن مفردات «المواجهة» و«الرفض» أخذت تتراجع لصالح مفردات «الوساطة»، و«التنمية»، و«التكامل»، حتى أن القضايا المركزية التي شكّلت لسنوات طويلة جوهر الصراع العربي، كالقضية الفلسطينية أو الأزمة السورية، باتت تقارب اليوم بلغة أكثر براغماتية، تركّز على الممكن والمصالح بدلاً من الشعارات المكررة والمواقف الجامدة.

فعلى ما يبدو أن العالم العربي بدأ بإعادة ضبط اتجاه بوصلته الاستراتيجية على نحو أكثر واقعية وانفتاحاً، انطلاقاً من قناعة بأن مرحلة ما بعد «النفط» قد بدأت بالفعل، وأن الاتكال على قوة خارجية واحدة لم يعد يضمن الاستقرار، وهذا ما يتجسد تحولاً في مجموعة من التوجهات السياسية والاقتصادية، أبرزها: تنويع الشراكات الاقتصادية والتكنولوجية بما يكسر احتكار الغرب للمجالات الحيوية، صياغة سياسات نقدية مستقلة تعكس أولويات محلية وتواكب المتغيرات العالمية في أسواق المال والعملات، خطاب إعلامي متزن يعكس تحولاً في الرؤية تجاه الأزمات الدولية والإقليمية بعيداً عن الانفعال أو الاصطفاف التلقائي.

***

ما نعيشه اليوم لا يقتصر على تغيرات سياسية عابرة، بل هو بداية لتشكيل نظام عالمي جديد بقواعد مختلفة. وفي خضم هذه التحولات، لم يعد مقبولاً أن تكتفي النخب العربية بدور المتفرج أو برد الفعل، إذ إن المطلوب اليوم هو الانتقال من موقع الاستجابة إلى موقع الفعل، ومن انتظار ما تقرره القوى الكبرى إلى صياغة خيارات مدروسة تعكس المصالح الحقيقية للمنطقة. فالمرحلة المقبلة تفرض مراجعة جادة للأولويات: بين التبعية والمبادرة، بين تكرار التجارب السابقة والسعي نحو حلول مبتكرة، بين الوقوف على الهامش والمشاركة الفعلية في صناعة التوازنات.

وفي هذا التوازن الصعب بين المبادئ والمصالح، تكمن الفرصة لإثبات وجودنا كشركاء فاعلين، لا كتابعين متلقين في عالم تملك بلادنا الكثير من مقومات تقدّمه البشرية والمادية، ما ينقصنا فقط هو الإيمان بالذات وبأهمية وحدة موقفنا، فالعالم لا يخشى إلا الأقوياء.

* كاتب ومستشار قانوني