في سابقة قانونية تُعيد تصويب مفهوم الهوية الجندرية داخل النظام القانوني البريطاني، أصدرت المحكمة العليا في المملكة المتحدة بتاريخ 12 أبريل 2025 حكماً نهائياً يقر بأن «المرأة»، في بعض السياقات القانونية الحساسة، يجب أن تُعرّف بحسب معيار الهوية البيولوجية لا الجندرية.

ففي تغليب واضح لمعيار «الجنس البيولوجي» على حساب «الهوية الجندرية المختارة» أي «الجنس المكتسب»، قضى الحكم التاريخي بإجماع أعضاء المحكمة العليا بأن تعريف «المرأة» ضمن قانون المساواة البريطاني لعام 2010 يقتصر -في سياقات محددة- على الأنثى البيولوجية، أي من وُلدت أنثى بحسب الخصائص التشريحية والكروموزومية، وبهذا المعنى، لا يحق للرجل المتحوّل جنسياً -حتى لو كان حائزاً شهادة تغيير جندري رسمية- أن يُعامل قانوناً كامرأة في تلك السياقات التي لا تستفيد منها إلا الإناث بيولوجياً.

Ad

وقد أشارت المحكمة إلى أن بنود الحماية القائمة على الجنس البيولوجي والمنصوص عليها في قانون المساواة «لا تنطبق على النساء المتحولات جنسياً، أي أولئك اللواتي وُلدن ذكوراً وتحوّلن إلى إناث»، لاسيما أن محاولة تفسير الجنس بوصفه حالة يمكن اكتسابها قانونيا ستؤدي، وفق منطوق الحكم، إلى «خلق مجموعات غير متجانسة»، ما يتعارض مع تعريفات الرجل والمرأة المنصوص عليها في قانون المساواة، ويجعلها «غير متماسكة».

ورغم أن هذا الحكم قد لا يفاجئ الغالبية العظمى من أفراد المجتمعات الشرقية والعربية والإسلامية، فقد أثار صدىً واسعاً وتداعيات قانونية واجتماعية وسياسية متشابكة، ليست داخل المملكة المتحدة فحسب، بل في أنحاء متفرقة من العالم الغربي الذي اختلطت فيه ايجابيات التقدم الحضاري مع سلبيات الانقلاب على الثوابت الدينية والفطرة الإنسانية.

فقد أحدث هذا الحكم انقساماً حاداً في الآراء، حيث رحبت المدافعات عن حقوق النساء البيولوجيات به باعتباره حماية لخصوصيتهن وأمنهن الجسدي والنفسي، ورأت فيه انتصاراً لمبدأ «النسوية الواقعية» الذي يرفض ذوبان الحدود البيولوجية، في حين اعتبرت جماعات المتحولين جنسياً ومن يؤيدهم الحكم انتكاسة لحقوقهم، وعودة إلى «منطق الإقصاء»، خصوصاً أنه يُنكر الواقع النفسي والاجتماعي للهوية الجندرية، حسب تعبيرهم.

السياق القانوني: كيف بدأت القضية وإلى ماذا انتهت؟

ترجع أصول النزاع إلى مطالبة قضائية تبنتها مجموعة نسوية «من أجل نساء أسكتلندا» ضد إجراءات تُجيز إيواء النساء المتحولات جنسياً داخل السجون النسائية، مستندة إلى وقائع موثقة لاعتداءات جنسية ارتكبها نزلاء متحوّلون بحق نزيلات بيولوجيات، معتبرين أن الجمع بين الفئتين يُقوّض السلامة الشخصية ويعرّض النساء لانتهاكات.

وهكذا كشف الطعن عن خلل جوهري في التمييز القانوني بين الهوية البيولوجية وتلك الجندرية، مما أجبر القضاء على التعامل مع السؤال الجوهري: هل يحق للفرد أن يُعامل قانوناً بحسب تصنيفه الجندري الذاتي الذي اختاره وتحدى فيه الطبيعة، أم يجب تغليب اعتبارات السلامة العامة والهوية البيولوجية على أي اعتبار مستحدث وخارج عن الطبيعة؟!

وللإجابة عن هذا التساؤل الإشكالي، استندت المحكمة في قرارها إلى ثلاث دعائم رئيسية، هي:

• الوضوح القانوني، إذ لا يمكن للقانون أن يُبنى على مفاهيم متغيرة أو ذاتية كالهوية الجندرية المختارة، بل يتطلب تعريفات وأسساً ثابتة لتسهيل التطبيق السليم وإنفاذ العدالة.

• السلامة والوقاية، إذ إن تطبيق مفهوم الهوية الجندرية دون قيد في أماكن حساسة كسجون النساء أو الملاجئ، قد يؤدي إلى مخاطر أمنية لا يمكن التغاضي عنها.

• السوابق والتشريع القائم: إذ أكد الحكم أن قانون المساواة لعام 2010 يتيح، عبر نصوص واضحة، تقديم خدمات ومرافق مخصصة للنساء البيولوجيات فقط، عندما تكون هناك مبررات موضوعية تتعلق بالأمان أو الحشمة. وقد اعتبرت المحكمة، في استنادها إلى هذه النصوص، أن التمييز في مثل هذه الحالات لا يُعد انتهاكاً لحقوق المتحولين، بل وسيلة مشروعة لحماية مصالح قانونية قائمة، وهذا ما يأتي منسجماً مع مبادئ التوازن في التطبيقات المقارنة التي تُقيِّد دخول المتحولات إلى مرافق النساء عندما تقتضي الضرورة ذلك.

ومن غير المستبعد، والمأمول، أن يؤدي هذا الحكم إلى تغييرات جوهرية في سياسات الإدماج الجندري في بريطانيا، بما يشمل الفصل الصارم في مرافق الاحتجاز، بحيث لا يُسمح بإيواء المتحوّلات جنسياً في السجون النسائية، حتى مع تغيير الحالة القانونية، كما أنه سيؤدي الى تعديل آليات الوصول إلى الخدمات، كالملاجئ أو الحمامات أو المرافق العامة، لتُخصص للنساء البيولوجيات فقط في بعض الظروف.

وهذا ما سيفتح الباب بالطبع لإعادة النظر في تفسيرات قوانين المساواة التي كانت أكثر تحرراً في تعريفات الجندر، وخاصة قانون عام 2018 الذي فرض تمثيلاً نسائياً في الهيئات العامة، بما يشمل النساء المتحولات.

ويلحّ التساؤل في هذا السياق: هل يستطيع القانون أن يظل أداةً لضبط العلاقات في مجتمع يتحول سريعاً في فهم الهوية؟ أم أن الحماية القانونية يجب أن تُبنى على الوقائع الموضوعية لا الخيار الذاتي؟ هذا السؤال سيبقى مطروحاً أمام المحاكم والمشرّعين في بريطانيا والدول الغربية بشكل عام.

وهنا ينعقد الأمل على أن يتخطى النقاش مجرد فكرة التوازن بين مطلب حماية «الهوية الجندرية» ومطلب صيانة «الأمن الجسدي والخصوصية البيولوجية»، إلى آفاق أرحب وأوسع تعيد القانون وتطبيقاته إلى الفطرة الإنسانية ومنطق الطبيعة والالتزام الديني والمبادئ الأخلاقية، إذ إن الموقف القانوني من النقاش الجندري يفتح الباب على مصراعيه لتحولات جوهرية في مجالات متعددة من أبرزها التعليم، الرعاية الصحية والعمل.

بريطانيا ليست وحدها أمام هذا التحول المهم في تصويب المسار، إذ ربما يحفز هذا الحكم كثيراً من الدول، مثل فرنسا وألمانيا وكندا لإعادة البوصلة إلى مسارها الفطري السليم في التشريعات المتعلقة بحقوق الإنسان، والمساواة، والخيارات الدينية والاجتماعية.

* كاتب ومستشار قانوني