عطفاً على مقال الأحد الماضي تحت عنوان من الإرساليات التبشيرية للاستعمار القديم إلى استعمار يرتدي مسوح الرهبان (1)، يتناول مقال اليوم هذه الإرساليات كحاضنة للاستعمار القديم التي انطلقت من أوروبا إلى آسيا وإفريقيا، كما شملت هذه البعثات التبشيرية القارة الأميركية، واستمرت بعد اكتشاف العالم الجديد، كما رافقت الحملات الصليبية إلى الشرق لنشر التعاليم المسيحية بين المسلمين.
وقد استقرت الجمعية اليسوعية في بيروت عام 1830م، وكان قد بعثها البابا بولس السابع عام 1814م، والتي كان قد ألغاها البابا السابق في عام 1774م، وقد سبقتها إرسالیات پروتستانتية إنكليزية وأميركية إلى هذه المنطقة، كما توافد على لبنان اليسوعيون الذين أسسوا الجمعيات والأخويات الدينية ومؤسسات الراهبات وأنشأوا الأديرة في بلدة بكفيا (جبل لبنان) وفي منطقة زحلة، في عام واحد هو عام 1872م، كما انتشرت مدارسهم حتى لم تخلُ بلدة كبيرة أو متوسطة في لبنان من مدارسهم، كما نشأت معها المستشفيات والمستوصفات.
وقد أذنت فرنسا للبعثات الكاثوليكية بإنشاء كلية طب فرنسية في بيروت عام 1883، من كليات جامعة القديس يوسف، كما أنشات جامعة ليون الفرنسية مع اليسوعيين، وكلية الحقوق ومعهد الهندسة العالي عام 1919، كما أنشأت هذه الإرساليات المكتبات، وفي مقدمتها المكتبة الشرقية عام 1853، ومن هناك انتشر اليسوعيون في دمشق عام 1872، وجبل حكار.
كما نزل اليسوعيون مصر عام 1879، إلا أن الاحتلال البريطاني لمصر بعد ثلاث سنوات من دخوله إليها لم يكن ليهتم بتحقيق الغزو الثقافي في البلاد التي احتلها على النقيض من الاستعمار الفرنسي، الذي كان يهدف إلى تغيير الهوية الثقافية للبلاد المحتلة، بما في ذلك محو لغتها العربية واستبدال بها اللغة الفرنسية، كما حدث في الجزائر وغيرها من البلاد الإفريقية.
وبادئ ذي بدء، وقبل أن نتناول دور هذه الإرساليات كحاضنة ثقافية وخدمية للاستعمار القديم، ومع نبل الأعمال التي قام بها اليسوعيون والإرساليات البروتستانتية وغيرهما، من نشر التعليم والتقدم والثقافة والرعاية الصحية في الشرق الأوسط وفي غيره، إلا أن الباعث على إرسال هذه الإرساليات كان الاستعمار الثقافي.
إلا أنه من الإنصاف أن نؤكد الأمور الآتية:
أولاً: إن هناك انفصاماً تاماً في هذا الباعث بين رواد هذه الإرساليات من الرهبان والمعلمين الأجلاء في هذه الإرساليات الذين يتمتعون بنبل الباعث وبين القيادة المركزية لها في العواصم الغربية، والتي كانت تربطها أواصر وثيقة بالدول الاستعمارية، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر في هذا السياق القديسة تريزا الراهبة الألبانية الهندية التي ولدت في عام 1910 في مقدونيا اليوغسلافية (السابقة)، والتي وهبت حياتها للخير، ومساعدة الفقراء والمرضى والمعدمين، وقد احتلت قلوب الملايين من البشر مسلمين ومسيحيين، فقد كانت تقضي حياتها كلها في فعل الخير، ونالت جائزة نوبل للسلام في عام 1979، وقد توفيت في 5 سبتمبر سنة 1997، إثر مرض عضال عانت منه سنوات طويلة، وقد انتقل إليها المرض خلال خدمتها للمرضى.
ولا عجب أن يكون هناك هذا الانفصال، فالانفصام قائم حتى في الفكر السياسي بين القيادات السياسية التي تتبوأ مقاليد الأمور في أغلب الدول العربية وبين القواعد الشعبية في هذه البلاد، كما هو حاصل بالنسبة إلى حرب غزة الآن، حيث ترتبط بعض حكومات هذه الدول بعلاقات تتفاوت درجاتها مع إسرائيل أو الإمبريالية العالمية الاستعمارية التي تساند إسرائيل مادياً وعسكرياً ومعنوياً في هذه الحرب، وبين الشعوب العربية التي تتبوأ فلسطين والقضية الفلسطينية مكاناً كبيراً في قلوب الملايين منها، ويشاركون أهل غزة محنتهم، والانقسام قائم كذلك بين الحكومات الاستعمارية التي تساند إسرائيل وبين شعوبها وطلاب جامعاتها الذين خرجوا مراراً وتكراراً للاحتجاج على هذه الحرب، في كل العواصم الغربية.
ثانياً: أن هذا الانفصام بين القيادة المركزية لهذه الإرساليات وبين رهبان وعلماء أجلاء فيها، قد كشف عنه أحد رهبان اليسوعية جيروم زمار ونزكي اليسوعي البولوني الذي طرد من الرهبانية عام 1610م.
والذي قرر في كتابه الهجاني لطائفته وإرساليته: «إن هذه الرهبانية يديرها بعض الرجال المحتفظين بأسرار مخيفة، والمرتبط بعضهم ببعض بأنواع من القسم الرهيب»، مضيفاً أن التعليمات السرية لهذه الإرسالية تنحصر في قاعدتين:
1- التضحية بكل شيء، بما في ذلك البشر والسماء وتعاليم الله من أجل الرهبانية.
2- استخدام كل الوسائل الممكنة من أجل السيطرة على العالم.
وللحديث بقية غداً عن دور هذه الإرساليات، التي تحولت في المشروعات التعليمية (الجامعات والمعاهد) وفي المشروعات الصحية، إلى مشروعات استثمارية متعددة الجنسيات، وتعتبر هذه الاستثمارات مكوناً من مكونات الاستعمار الاقتصادي الجديد.