صعود السور ونزوله
خلال صعودنا درجات سور الصين العظيم سمعت طفلاً صينياً يقف أمام زملائه الطلاب مخاطباً إياهم، كما أفاد المترجم جلال: «أنا بطل»، وكأنه يحاكي القول المأثور للزعيم ماو تسي تونغ، «إذا لم تصعد سور الصين العظيم فلستَ بطلاً»، وهو الكلام المنقوش على جدارية عند مدخل السور.
من وسط بكين باتجاه السور استغرقت الرحلة بالسيارة حوالي الساعة، ما إن تقترب من النقطة التي يتجمع فيها الزائرون (البالغ إجماليهم 12 مليوناً سنوياً) حتى تبدو لك سلسلة من قمم الجبال الشامخة ليظهر فيها السور متعرجاً بشكله.
نصل إلى ممر للتدقيق على هوية الزوار ندخل الشارع المؤدي إلى مركز التجمع استعداداً للصعود وسط طقس ربيعي معتدل وأجواء مشمسة.
وبعكس المفهوم الشائع عند البعض، فالسور ليس مركزاً واحداً أو سوراً واحداً، بل يمتد من بكين إلى الغرب، وفي كل موقع يحمل اسم المنطقة الجغرافية التي يوجد بها، والواقع أن هناك عدة أسوار بنيت للدفاع ضد غزو المغول وبفترات زمنية متلاحقة.
طول أسوار الصين العظيمة حوالي 21 ألف كلم، والمكان الذي اكتسب شهرة عالمية يقع في شمال مدينة بكين، وقد أضيف إلى قائمة عجائب الدنيا السبع.
صعود السور ونزوله تطلب منا نحو الساعة إلى أعلى نقطة فيه، حيث استراحة السياح وشراء الهدايا والتقاط الصور وأفواج من الزوار ومختلف الأعمار، تتعجب من أولئك المسنين الذين يتكئون على عصي للوصول إلى القمة أو للفتيان الصغار الذين يرشدهم أساتذتهم في طوابير منتظمة، يأتون بغرض التعرف.
بين «المدينة المحرمة» وأزقة بكين التاريخية
من ساحة ميدان «تيان آن من» ذات الشهرة العالمية والمعروفة بحادثة الرابع من يونيو الطلابية عام 1989، أو كما يسمونه ميدان «ابن السماء» وسط مدينة بكين، وهو من أكبر الميادين مساحة هناك، نعبر إلى القصر الإمبراطوري حيث «المدينة المحرمة»، التي كانت مقر إقامة الأباطرة من أسرتي «منيغ» ثم «تشينغ» (المدينة موطن لحوالي 24 إمبراطوراً)، ومعنى اسم «المدينة المحرمة» أنه لا يمكن لأحد الدخول إليها بدون إذن مسبق.
وهذا الموقع من المواقع التراثية والأثرية التي يقصدها الزوار والمواطنون بمئات الآلاف يومياً، اكتمل بناؤه بعد 14 سنة (من 1406م إلى 1420) يوجد بداخله حوالي مليون قطعة من التحف الفنية النادرة وفيه متحف شامل.
الدخول بعد إجراءات أمنية، تتنقل فيه من مبنى إلى آخر وبهندسة معمارية تحمل الطابع الصيني التراثي وباللون الأحمر، بنات الصين والفتيات يلبسن ثياباً تشبه ثياب الأميرات، يدخلن بكامل أناقتهن، جموع كبيرة تتوافد على المباني في جولة تتطلب منك الصعود والنزول.
حياة الإمبراطور ومقر عمله ومسكنه وزوجاته كيف كان يدير إمبراطوريته وتفاصيل حياته، حافظت عليها الصين ولم تدر وجهها لتاريخ إمبراطوريتها بالرغم من انتقالها إلى نظام سياسي مختلف.
القصر مؤلف من 9999 غرفة، وللرقم تسعة معنى مألوف ومحبب، «مزينات» تعلو داخل القصر، وهي تمثل رموزاً لحيوانات لها معانٍ مختلفة.
يطغى على القصور اللونان الأحمر والأصفر نظراً لارتباط هذين اللونين بالثفافة الصينية، تفصل بين القصور المبنية من كتل حجرية نحتت يدوياً وساحات رصفت بقطع حجرية عليها نقوش جميلة، حوالي 800 مبنى، يحيط بها سور طويل... ولكل قصر وظيفة ومهمة.
من هذا القصر ترى أعلى عمارة في بكين، تدهشك حياة الإمبراطور، بما فيها من غنى وقيمة فنية عالية، امتلكت المعرفة وحب الجاه والمال والمجوهرات.
أقدم الأحياء في بكين
أنهينا الجولة بعد شراء هدايا وتحف تعرض في الساحات حيث يلتقي الزوار للاستراحة، ومن هناك إلى أقدم أحياء مدينة بكين التاريخية والمعروفة باسم «الهوتونغ» عبارة عن أزقة وبيوت قديمة بنيت في عهد «أسرة يوان» تحيط بتلك الشوارع المخصصة فقط للمارة منازل فناء تقليدية يسمونها «سيهيوان» أي الساحات.
سيراً على الأقدام تخترق ممرات ضيقة كانت عبارة عن أحياء سكنية متشابكة، تحولت اليوم إلى أماكن تراثية تزخر بالمقاهي والمطاعم والمتاجر، وما إن تدخل زقاقاً حتى تتجه يميناً أو يساراً.
تجلس في متجر مخصص لبيع الشاي تقدم لك صاحبته أكواباً مختلفة للتذوق وتزودك بمعلومات عن أماكن زرعه وكيفية تجفيفه وتنتهي بكيس من علب الشاي ذات الروائح الطيبة والمفيدة صحياً.
زيارة «سوق الهوتونغ» والكلمة بالصينية تعني الأزقة تمنحك فرصة التسوق أولاً، والتعرف على طريقة الحياة التقليدية لأهل بكين وبيوت بنيت منذ مئات السنين اتخذت لوناً رمادياً.
سوق للزواج في ميدان حديقة الشعب
زيارة سوق للزواج في حديقة شنغهاي ليس بالأمر المستغرب، نظراً لوجود ثلاثة أضعاف عدد النساء مقارنة بالرجال، حيث تبحث كل منهن عن شريك لحياتها.
السوق عبارة عن مكان مفتوح يقوم الآباء والأمهات بعرض بناتهم فيه للزواج، تضع لوحة وتقف أمامها، فيها اسم الفتاة وتاريخ الميلاد ومكان الولادة ومستوى التعليم، وحتى تزيد من التشويق والإغراء تذكر المبلغ السنوي في إيرادها وكم تقبض من الأموال، فهذا يشجع الشباب على الزواج.
ونحن نتجول في السوق بصحبة المترجم سألت إحدى الأمهات: هل توافقين على زواج ابنتك من شخص عربي يعيش في الكويت؟ فأجابت: عليه أن يأتي إلى هنا، لأن ابنتي ترفض مغادرة بلدها.
علمت أنه في يومي السبت والأحد من كل اسبوع يزدحم هذا المكان بالجمهور، يأتون إلى هنا للمشاركة ومشاهدة اللوحات والرسائل التي تكتب باللغة الصينية، وغالباً تتم العملية دون علم البنات!
دار حديث حول شروط الزواج الطبيعية في الصين، وتبين أن المسألة تختلف من منطقة إلى أخرى، ومن قومية إلى أخرى، وهناك من يحدد الشروط المطلوبة في الشاب، وهو أن تكون لديه سيارة، وما يعادل مبلغ 5 آلاف دينار كويتي، عبارة عن مهر للعروس، وهو أمر بالغ الصعوبة.
ما هو جدير بالملاحظة أن السوق دخل عصر الإنترنت والإشراف عليه من أناس مختصين يتلقون العروض، وعبارة «أهلا بك في سوق الزواج» في شنغهاي تطالعك عند الوصول، إضافة إلى ذلك، فالمدينة تنظم معرضاً باسم «الحب السنوي والزواج» للترويج ومساعدة الشباب لإيجاد علاقة مع فتاة.
الرقص الجماعي في الحديقة
قبل الدخول إلى هذا السوق يستوقفك سماع صوت الموسيقى وهي تصدح في أذنيك، تنظر إلى يمينك، وإذ بمجموعة من النساء والرجال يشاركون بالرقص الجماعي على أنغام أشبه بحفلة الزار لكنها هادئة وممتعة، تجلب إليها المتقاعدين وكبار السن ليمارسوا رياضة الرقص بالهواء الطلق ودون أية قيود، هذه السعادة تجدها في عموم أنحاء الصين يومياً، وبالفترتين الصباحية والمسائية عندما تذهب إلى أي حديقة عامة.
سألت أحد العارفين عن تفسيره لتلك الظاهرة قال: هذا نمط سعيد بالحياة نشجع عليه ونسعد برؤيته.
قصة المطاعم العربية
ما إن تضع قدميك في مطار بكين، أو حتى إذا كنت من القادمين الجدد إلى الصين، حتى يطاردك السؤال: ماذا بشأن المطاعم العربية هنا؟ أين ستذهب لتناول الطعام إذا لم تكن من محبي الأكل الصيني؟
قد يكون السؤال طبيعياً عند زيارة أي بلد أجنبي إنما في الصين له طعم آخر ستكتشفه، عند زيارتك الأولى لمطعم عربي تشرع بالحنين إلى أجوائه.
أخذنا العم «غوغل» إلى مطعم تركي في بكين، من الوهلة الأولى تظن نفسك في بغداد، فالأغنية العراقية ترن في أذنيك ترتاح لهذا الصوت الحزين الذي يصاحبك في جلستك مع استكانة الشاي، والحديث عن المطبخ التركي وأثره في البيت العربي ككل، وإن كانت الفتاة الصينية التي تعمل هناك «خبيرة» بأسماء الأكلات التركية تنطقها بطريقة يصعب عليك التمييز بينها.
الموضوع ليس خاصاً بالطعام بل بأولئك المغامرين العرب، الذين طرقوا أبواب الصين منذ سنوات، وبنوا سمعة وشهرة باتت محل إعجاب الكثيرين.
وقبل أن نقرر الذهاب إلى مطعم ELIE falafel، رحت أبحث عن أشهر المطاعم العربية وجدت أن اسمه يحتل الرقم واحد من أصل عشرة مطاعم في مدينة شنغهاي، استعنت بابن أخي المقيم في هذه المدينة ويدعى نضال عليان، اصطحبني إليه لنتعرف عليه.
التقيت بصاحب المطعم السيد وائل العقاد، جلسنا نتحدث عن قصته مع الصين، قال: بعد أن تخرجت في الجامعة ببيروت قررت أن أعمل في هونغ كونغ في مجال الشحن اللوجستي، بعدها جئت إلى شنغهاي، ورحت أعرض الطعام اللبناني الذي أعده بنفسي على عربة متنقلة وستاندات لعرضها على طلاب المدارس.
يضيف: وجدت إقبالاً غير عادي، وهذا ما شجعني على أن أفتتح مطعماً هنا، أنا وزوجتي لدينا شغف بإعداد الطعام، وهذا كان حافزاً لي.
اليوم صار يملك 5 أفرغ في شنغهاي، والقادم قريباً سيكون في العاصمة بكين.
«إيلي فلافل» شهرته طافت أرجاء الصين، وبعزيمته ومثابرته تحول إلى ما يشبه منتدى للسفراء والقناصل العرب والمسلمين، وقد شارك بمعظم المناسبات التي أقامتها القنصلية الكويتية هنا، ولديه علاقات طيبة مع القائمين عليها.
سألته كيف تعلمت اللغة الصينية؟ أجاب من خلال العمل والتعاون مع الصينيين، إنهم شعب ودود يستورد بضاعته من بلدان عربية، وفي شهر رمضان يتم إعداد وجبات خاصة بالمسلمين.
وائل العقاد اسم قد لا يعرفه الكثيرون، لكن «إيلي فلافل» بات علامة نجاح جعلت مجلة «مركز شنغهاي» تضع قصته على غلاف عددها الذي وزعت منه 40 ألف نسخة.
وفي بكين كان لمطعم «ألف ليلة وليلة» قصة أخرى مختلفة، لكنها تصب في رسم صورة الوجود العربي في الصين، وتأسس هذا المطعم على يد طبيب سوري يدعى الدكتور فريد فاخور وزوجته، حيث جاء العاصمة عدة مرات للدراسة ثم العمل، وشاركته زوجته الصينية المشروع منذ عام 1979، وقد افتتح المطعم عام 1994 في أرقى أحياء العاصمة قريباً من حي السفارات العربية.
يدير المطعم حالياً شخص آخر من الجنسية السورية هو منذر مالك الذي استقبلنا بكلمات ترحيبة، مبدياً سعادته بالضيوف الخليجيين، وصل الصين قبل 21 سنة بعد تخرجه في الجامعة يشعرك كأنك في بلدك وسط أجواء من الروح العربية وبديكورات تعيدك إلى أجواء دمشق وألف ليلة وليلة.
رائحة الأرجيلة تصلك آلياً ما ان تدخل الصالة، وفي منظر غريب، رواد المطعم الصينيون يشربون الشيشة وصوتها الهادئ يرن في أذنيك.
مدير المطعم في الموقع الرئيسي في بكين يتكلم اللغة الصينية، وفي هذا المكان يجمع قصص السكان العرب، صار نقطة لقاء مع الأحباء الصينيين لتلاقي الثقافتين في مكان واحد، هو باختصار «جسر للتواصل على مأدبة طعام» كما يحلو وصفه من أحد الصحافيين العرب اليوم، لديه فروع في عدة مدن مثل شنغهاي، وكوانجو، ويبووهي.
المدينة الساحرة تحاكي مستقبل العالم
أزهى صور العولمة تجدها في شنغهاي
لا يحتاج الباحث أو زائر الصين بذل جهد كبير للوقوف على «حالة العولمة» التي تعيشها، يكفي أن يتجول في أسواق شنغهاي أو بكين ومراكزها التجارية حتى يرى بأم عينيه كيف تعد الصين «مصنعاً للعالم».
في الشارع كل مصانع السيارات في العالم أمامك، بل أفخمها، سيارات يابانية وأميركية وألمانية تملأ العين والطرق، ينتابك الذهول أينما اتجهت على الأقل في مدينة شنغهاي. معظم الأسماء الغربية، من مقاهٍ ومطاعم ووجبات سريعة تجدها أمامك، وعليها إقبال من الجمهور، لا يقل عن أي وجهة أخرى.
هنا ترى الفرق بين السياسة والمصالح، في السياسة خطابات وتوجهات وعلاقات بين مد وجزر، لكن في المصالح لغة أخرى تترجم على أرض الواقع.
من كل 10 سيارات في شوارع الصين هناك 5 منها تعمل بالكهرباء، ويمكنك التمييز بينها من خلال اللوحات، فاللون الأخضر يعني سيارة كهرباء، والأزرق يعني البنزين، والصين اليوم حصتها في السوق العالمي من السيارات الكهربائية أكثر من النصف.
لم تعد الصين «مغلقة» كما يعتقد البعض في العالم العربي والخليجي، فالغرب عموماً وأميركا تحديداً ساهمت بتشويه صورته لدى الرأي العام الغربي، والأسباب كثيرة، فالشعب هنا ودود، تشعر بالراحة والأمان عندما تذهب إلى مدينة في عموم الصين.
بإمكان الزائر أن يقضي كل احتياجاته ببساطة وسهولة، يمكنه تصريف الدولار عبر ماكينة ATM أو عن طريق البنك، يمكنه التواصل مع العالم عبر wechat أو الواتساب أحياناً، وإن لم تكن على معرفة باللغة الصينية فالإنكليزية هي السائدة.
التعرف على شنغهاي ليس بالأمر الصعب أبداً، بل ستستمع وأنت تتنقل بين برج اللؤلوة الشرقية على ارتفاع 468 متراً تعلوه إحدى عشرة كرة تشبه أبراج الكويت من حيث التصميم، يطل على المدينة بمنظر بانورامي يتراءى أمامك نهر هوانغبو بجماله الأخاذ.
طرقات شاسعة أحسن ما فيها انسياب حركة المرور والالتزام بالقانون من الجميع، يعطيك نظرة إلى شعب تعداده أكثر من مليار و400 مليون نسمة، يسير على المسطرة لاسيما مشهد الدراجات إلى جانب السيارات بصورة راقية ومسافات محددة كأنها لوحة مرسومة، وليست حركة بشر وسيارات ودراجات على الأرض.
مدينة عالمية منفتحة توالى عليها المحتلون والغزاة ومازالت آثارهم باقية تذهب إلى الحي الفرنسي أو مركز التجارة الياباني كأنك سافرت إلى باريس أو طوكيو. أشجار «العنقاء» تصطف على طول الطريق لعمارات وأبنية تراثية صارت مقصداً للسياح.
وأنت في قلب مدينة شنغهاي مدينة الابتكار والتكنولوجيا وصناعة المال وعصب التجارة والملاحة الدولية تنظر إلى أعلى مبنى تجاري وهو على ارتفاع 632 متراً، حيث «مبنى مركز شنغهاي التجاري»، وإذ بمدينة تموج بالعمارات والأبراج والمولات الشاهقة.
يتداول بين الدارسين، وكما فعلت الدكتورة نور الحبشي، التي ترافقنا معها بالرحلة قولها: إذا أردت معرفة الصين فاذهب إلى شنغهاي، قبل أن تزور أي مدينة أخرى، فبكين هي العاصمة السياسية والإدارية لكن شنغهاي هي المستقبل، لذلك كانت دائماً في صدارة الأحداث.
وإذا كنت تتحدث عن المدن في بلد يضم 56 قومية أكبرها قومية «هان» تبرز «شيان» ثالث أكبر مدينة من حيث تعداد السكان، وهي في غرب الصين لتشتهر بأنها نقطة البداية لطريق الحرير، مدينة تربط ثقافة العالم بتاريخها العريق، فإن شنغهاي تبقى «اللؤلؤة الشرقية» للصين 90% من سكانها يعيشون في قلب المدينة، تتنوع فيها الثقافات، والسياحة فيها لها طعم مختلف، أماكن تسوق وأسواق تجارية، ومواقع تراثية ومساجد، وهي فعلاً المدينة التي لا تنام تبقى تضج بأسواقها وناطحات السحاب، سميت بـ «شين» وتعني «على البحر» يخترقها نهر هوانغبو، ويزيد عليها بميناء دولي هو الأكبر على مستوى العالم بـ 16 مساراً عالمياً.