في العقود الأخيرة، شهد الإنسان تحوُّلات جذرية في النمط الغذائي ونمط الحياة فاقت سرعتها قدرة الجسم البشري على التكيُّف البيولوجي. أحد أبرز الأمثلة على ذلك، هو ارتفاع معدَّلات السكَّر في الدم، والإصابة بمرض السكري من النوع الثاني حول العالم. فخصائص جسم الإنسان التي تطوَّرت عبر آلاف السنين لتناسب بيئة شحيحة الموارد، أصبحت اليوم في بيئة فائضة بالسكر والسعرات سبباً في أزمات صحية خطيرة.

التطور البيولوجي للإنسان عملية بطيئة جداً، مقارنة بوتيرة التغيير في البيئة المحيطة.

يشير علماء التطور إلى مفهوم «عدم التطابق التطوري» للإشارة إلى التفاوت بين صفات تكيفت مع بيئة سابقة، وبين البيئة الجديدة التي نعيشها الآن.

Ad

ببساطة، أجسادنا مبرمجة لحياة الصيد وجمع الطعام قبل آلاف السنين، بينما نعيش اليوم في عالم مختلف تماماً. نتيجةً لذلك، فإن أمراض المتلازمة الأيضية (مثل، السكري، وارتفاع الضغط والكوليسترول) أصبحت شائعة.

الرغبة في السكَّر وتخزين الطاقة مثال واضح على هذه الفجوة. في بيئة الأجداد، حيث كان الغذاء نادراً، كانت الرغبة الشديدة للأطعمة الحلوة والغنية بالسعرات ميزة تطورية تعزز البحث عن مصادر طاقة عالية. كذلك كانت القدرة على تخزين الفائض من الطعام كدهون في الجسم آلية حيوية للنجاة خلال فترات المجاعة. البشر الذين تمكنوا من تخزين الطاقة بكفاءة كانوا أكثر حظاً في البقاء والتكاثر وقت شح الموارد. هذه الصفات كانت مفيدة آنذاك، لكنها انقلبت إلى ضرر في عصرنا الحالي، إذ لم تعد فائدتها كما كانت، بل أصبحت عبئاً صحياً. فعندما تقوم شركات الأغذية اليوم بإغراق أسواقنا بأطعمة غنية بالسكر المكرر والدهون، فإنها تستغل بذلك تلك الصفة التطورية النافعة سابقاً (حب السكّر)، وتحولها إلى مصدر ضرر. والنتيجة هي ارتفاع هائل في معدَّلات السمنة والسكري، نتيجة هذا الخلل بين ما تهيأنا له تطورياً، وما نتعرَّض له فعلياً.

مع تغيُّر البيئة الغذائية بعد الثورة الصناعية وانتشار الأغذية المصنعة، قفزت معدَّلات السكري عالمياً إلى مستويات غير مسبوقة. فعلى سبيل المثال، تضاعف عدد المصابين بالسكري ثلاث مرات عالمياً بين عامَي 2000 و2019 – من حوالي 151 إلى 463 مليون شخص.

وتشير التوقعات إلى استمرار هذا الارتفاع، حيث قُدِّر معدَّل الانتشار العالمي بحوالي 9.3 في المئة عام 2019، ومن المتوقع أن يصل إلى 10.9 في المئة بحلول 2045.

ووفق الاتحاد الدولي للسكري، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أعلى المناطق عالمياً في انتشار السكري بنسبة تقارب 18 في المئة من البالغين. هذه الطفرة في الإصابات ترتبط بقوة بانتشار النمط الغذائي الغني بالسكريات والدهون وقلة النشاط البدني المصاحب لنمط الحياة الحديث.

تُعد دول الخليج العربي نموذجاً لعدم التجانس بين البيئة والتكيف البشري. فخلال بضعة عقود فقط، انتقلت مجتمعات الخليج من حياة تقليدية بسيطة تعتمد على الأطعمة المحلية والنشاط البدني اليومي (في الزراعة أو الصيد والتنقل مشياً) إلى حياة عالية الرفاهية، يطغى عليها نمط غذائي غني بالسعرات وقلة في الحركة. هذا التحوُّل السريع يفوق بكثير قدرة الجسم البشري على التأقلم عبر الانتخاب الطبيعي.

تقرير لمنظمة الصحة العالمية وصف الوضع قائلاً إن الشرق الأوسط يتصدَّر أقاليم العالم في نسب السمنة والسكري. فمع ارتفاع دخل الفرد، ازدادت أنماط الحياة الخاملة، السيارات حلَّت محل المشي، والأعمال المكتبية حلَّت محل النشاط البدني. وفي الوقت نفسه، أدى الانفتاح الاقتصادي إلى انتشار الأطعمة السريعة والمشروبات الغازية في النظام الغذائي اليومي.

تشير بيانات الصحة الإقليمية إلى أن استهلاك الفرد في الشرق الأوسط من السكر هو الأسرع نمواً عالمياً، وقد بلغ حالياً نحو 85 غراماً للفرد يومياً – أي أكثر من ثلاثة أضعاف الحد الصحي المُوصى به (حوالي 25-50 غراماً يومياً). كما ارتفع متوسط السعرات الحرارية المستهلكة يومياً للفرد إلى حوالي 2700 كيلوكالوري، متجاوزاً بكثير المعدَّل الصحي (~2000 كيلوكالوري). ليس مستغرباً إذاً أن يؤدي هذا النمط الغذائي المفرط مع قلة الحركة إلى ارتفاع هائل في معدَّلات السمنة، وبالتالي السكري، في المنطقة.

ما تواجهه دول الخليج اليوم هو سباق غير متكافئ بين التطور البيولوجي البطيء والتغيُّر البيئي والاجتماعي السريع. التكيف الجيني يستلزم مئات وآلاف السنين ليظهر بشكل ملحوظ، في حين أن نمط الحياة في الخليج تبدَّل بشكل جذري خلال جيلين أو ثلاثة فقط. الأجسام التي تأقلمت تاريخياً على شح الغذاء وجدت نفسها فجأة في بحر من الوَفرَة، فلم تتمكن منظومة الأيض من مجاراة هذا التحوُّل السريع. النتيجة هي وباء من الأمراض غير المُعدية: السكري، السمنة، أمراض القلب، وغيرها، تجتاح المجتمع، وتشكل تحدياً للتنمية والصحة العامة.

الحل لن يكون بانتظار التطور الجيني كي يلحق بالركب، بل بتكييف سلوكياتنا نحن مع بيئتنا الجديدة – عبر تحسين الغذاء، وزيادة النشاط البدني، وتبني أنماط حياة صحية – كي نُعيد التوازن المفقود بين الإنسان وبيئته، ونكسب هذا السباق مع الزمن.

التقارير الصحية تدق ناقوس الخطر، وتدعونا للتحرك السريع، حتى لا يتحوَّل «عصر السكر» إلى حقبة يطغى عليها المرض بدلاً من الازدهار.