قالوا عنها إنها أقدم مهنة في التاريخ، وراحوا يبحثون في المعاجم والكُتب القديمة ينفضون الغبار، ليقولوا لنا إنهن امتهن تلك المهنة في كل الأزمنة والأوقات، بل استسهلوا أن ينسبوا كل الخراب إلى فئة من النساء فقط. في حين تغص المجتمعات بكثير من الذين يستحقون ذاك اللقب الأكثر بغضاً في معظم بل ربما كُل المجتمعات، إلا مَنْ تفهَّم ودرس طبيعة المهنة وظروفها.
قد تكون لأقدم مهنة في التاريخ انعكاسات سلبية على المجتمعات، رغم أن الكثير من الدراسات قد تختلف مع هذا الاستنتاج، مقارنةً ببعض الممارسات الأخرى التي تحوَّلت بشكل أو بآخر إلى ما يشبه المهنة. وهي تمارس من قِبل فئات وأفراد من المجتمع بشكل يومي وروتيني، من دون أن تكون أو تُوصف بالمهنة، وهي في عُمقها تودي بالمجتمعات أو حتى الدول إلى ما يشبه الانهيار، خصوصاً إذا تحوَّلت إلى وسيلة للوصول إلى المناصب العُليا أو مراكز صُنع القرارات الأساسية التي تمس كل المواطنين، مثل حالنا الآن مع مرض أو داء النفاق الذي امتهنه الكثير من الرجال والنساء في مجتمعات من السياسيين، والاقتصاديين، والباحثين، والصحافيين، حتى تحوَّل إلى وباء شديد العدوى.
لا حاجة للبحث طويلاً للوقوف على مدى انتشار هذا الداء، فبمجرَّد متابعة القِسم الأعظم من برامج التلفزيون والمقابلات على وسائل التواصل، أو حتى النظر للصور المتنوعة للمحيطين بهذا المسؤول أو ذاك، سواء كان سياسياً أو رجل أعمال أو أكاديمياً، كُلهم أُصيبوا بمرض اسمه النفاق، ربما لأن بعضهم عرف أن المنافقين هم مَنْ يصلون إلى غاياتهم، وهم مَنْ يستطيعون أن يرسموا صوراً عن أنفسهم، ومَنْ «يمدحونهم»، هي في مُجملها كاذبة. ألم يقولوا إن «الكذب هو ملح النفاق»، وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، إن «النفاق يُفسد الإيمان، وهو توأم الكفر».
ولم يكن النفاق يوماً بعيداً عن المجتمعات، حتى إن الكُتب السماوية ذكرته، وفي كثير من الأحاديث للرسل والصحابة توصيف دقيق للمنافقين، ودورهم، وتأثيرهم، وعقابهم في الآخرة أيضاً. أبوهريرة فسَّر النفاق بأنه إظهار الخير، وإسرار الشر، وهو من أكبر الذنوب. وقال ابن جريج: «المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبة»، بل إنها، أي الكُتب السماوية، هي التي أعطت للنفاق معناه الحقيقي بعيداً عن المعنى اللغوي للكلمة، الذي لا يُوفي المنافقين حقهم في التعريف. وهم أقوى من أي طبقة، أو حزب، أو عشيرة، أو قبيلة.
في الآونة الأخيرة تغلغل المنافقون وسط الطبقات والشرائح المجتمعية، وانتشروا وكأنهم يقولون إننا الأكثر حضوراً، فلا تخلو منهم كل المناسبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية طبعاً! بل أصبح النفاق صفةً لمَنْ يريد أن يكون له مكان ما في بلد أو مجتمع، وانحسر الصادقون، أو ربما انعزلوا أو عُزلوا، لكونهم ربما كما سمَّاهم إبسن في روايته الشهيرة «عدو الشعب»! ليصبح كل مَنْ ينطق بالصدق مُخالفاً للكذب المستتر تحت عباءات الدولة أو الدِّين أو العشيرة، هو ما يُشار له على أنه مُعادٍ للناس كُلهم، أو هو مَنْ يريد لهم أن يعيشوا في بحور التعب والعوز، على حد تعبير المنافقين المروجين لازدهارات ونمو اقتصادي وتفوق في التكنولوجيا حد الوصول للقمر في سلسلة من الأكاذيب التي ربما صدقوها هم أيضاً! ألا يقول المثل: «اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب، حتى يصدقك الناس»!
ولم يكن الشعر العربي وشعراؤه الأكثر شهرة بعيدين عن النفاق، فكثير من قصائدهم كانت في مديح أمراء وحُكام ظالمين أو طغاة أو جهلة، فها هو البحتري بعبقريته الأدبية يهنئ المتوكل على الله في عيد الفطر، فينشد شطوراً من المديح الكاذب، فيبدأ بقوله:
بالبر صمت وأنتَ أفضل صائمٍ
النفاق ربما المهنة الأقدم والأكثر انتشاراً في التاريخ، والأكثر بقاءً من البغاء، ومنها دخل العفن للمجتمعات والشعوب، فعشش بين ثناياها ودمرها، وهم - المنافقون - مستمرون في تصوير الهدم على أنه بناء!
* ينشر بالتزامن مع الشروق المصرية