تشكِّل التعريفات الجمركية الأميركية، التي برزت بوضوح في عهد الرئيس دونالد ترامب، نقطة تحوُّل في السياسات الاقتصادية العالمية، وذات أثر مزدوج على مسارات التجارة والطاقة.
ورغم الانتقادات التي واجهتها تلك السياسات، فإنها جاءت كجزء من استراتيجية لإعادة التوازن للاقتصاد الأميركي، بعد أن تجاوز الدَّين العام حاجز 32 تريليون دولار، وخرجت الصناعة الأميركية إلى الخارج بنسبة تقارب 68 في المئة، ما أسهم في فقدان الوظائف وتزايد التضخم.
في هذا السياق، تبدو الرسوم الجمركية «ذكية» من وجهة نظري، من منظور أن الولايات المتحدة تسعى إلى استعادة التصنيع المحلي والتحكم في سلاسل التوريد، مما يعزز مكانتها الاقتصادية والسياسية على الساحة الدولية.
ورغم الضجة العالمية والقلق من تأثير تلك السياسات على الاقتصاد العالمي، فإن الانعكاسات على سوق النفط لم تكن بحجم التوقعات، بل أظهرت مرونة نسبية.
النفط بين العرض والطلب والتعريفات
خلافاً لما يُشاع، لا يُتوقع أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى تراجع كبير في الطلب على النفط. فرغم حالة القلق السائدة، يظل الطلب متماسكاً، بفضل عوامل موسمية، مثل زيادة استهلاك الطاقة في فصل الربيع، إضافة إلى النشاط الصناعي المتوقع داخل الولايات المتحدة نفسها. فالشركات العالمية التي تسعى إلى تفادي الرسوم ستنقل أعمالها أو توسعها داخل السوق الأميركي، ما سيولِّد طلباً محلياً أكبر على الطاقة والوقود.
ومن جهة أخرى، تبقى أسعار النفط متأثرة بتقلبات الدولار الأميركي، حيث إن انخفاض العملة الأميركية ساهم أخيراً في الحد من تراجع الأسعار. ومع ذلك، فقد شهد السوق ضغوطاً، نتيجة قرارات إنتاجية من تحالف «أوبك+»، لا سيما الزيادة المفاجئة في الإنتاج بواقع 400 ألف برميل يومياً، كرد فعل على تجاوزات بعض الدول، مثل: كازاخستان، والعراق.
كما أن خطوة السعودية، بخفض أسعار الخام الموجَّه إلى السوق الآسيوية، أضافت ضغوطاً سعرية، ما ساهم في زعزعة ثقة المستثمرين، وارتفاع عقود التحوط بشكل كبير.
الأسواق الآسيوية... الملاذ الخليجي
بالنسبة لدول الخليج، فإن تحوُّل التركيز الصناعي والاقتصادي نحو آسيا، خصوصاً الصين، يمنحها موطئ قدم أكثر ثباتاً في الأسواق العالمية للطاقة. فالصين، التي تستهلك نحو 80 في المئة من صادرات الولايات المتحدة ضمن الـ 20 في المئة المخصصة للتصدير، تتحوَّل تدريجياً إلى محور صناعي متكامل، ما يرفع من طلبها المستمر على النفط الخليجي.
وفي ضوء التغيرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي، تُعد دول الخليج في موقع مريح نسبياً. فبينما يتضرر الاتحاد الأوروبي وبعض حلفاء الولايات المتحدة من تبعات التعريفات الجمركية، تحتفظ دول الخليج بأسواق ثابتة وطلب قوي، ما يعزز قدرتها على المناورة والحفاظ على استقرار إيراداتها النفطية.
الكويت... تحوُّط ذكي في زمن التقلبات
أما بالنسبة للكويت، فقد كانت السياسات الاستثمارية المتنوعة أداة فعَّالة لمواجهة تداعيات الحرب التجارية العالمية. فالهيئة العامة للاستثمار، التي تملك نصف أصولها في السوق الأميركية، توفر نوعاً من الحماية من المخاطر الاقتصادية المتقلبة. وعلى الصعيد النفطي، ضمنت الكويت استقرار صادراتها، من خلال توقيع عقود طويلة الأمد، وتوسيع مشاريع التكرير الموجهة للأسواق الآسيوية، ما يعزز من قدرتها على الصمود أمام التحديات المستقبلية.
لكن تبقى هناك تحديات تتعلق بموازنات الدولة. فميزانية 2024/ 2025 اعتمدت على سعر برميل تقديري يبلغ 71 دولاراً، مع عجز متوقع بنحو 5.6 مليارات دينار، رغم التحوطات التي قد تخفف العجز إلى مليارين. ومع التوسع في مشاريع ضخمة مرتقبة، قد تواجه ميزانية 2025/ 2026 عجزاً أكبر ما لم يتم ضبط الإنفاق وتنويع مصادر الدخل.
نظرة مستقبلية
بشكل عام، تبقى أسعار النفط خلال الفترة المقبلة رهينة لمجموعة من العوامل المتشابكة، أبرزها التوترات التجارية، وقرارات الإنتاج من «أوبك+»، والتطورات الاقتصادية في آسيا.
ومن المتوقع أن تستقر الأسعار تدريجياً، ليبلغ القاع السعري نحو 70 دولاراً للبرميل مع نهاية 2025، مدفوعاً بانتعاش الطلب الآسيوي واستقرار سياسات الإنتاج.
في الختام، يمكن القول إن التعريفات الجمركية الأميركية، رغم كونها مثيرة للجدل، فإنها لا تشكِّل خطراً مباشراً على مستقبل الطلب على النفط، بل قد تكون في مصلحة دول الخليج على المدى المتوسط، من خلال تعزيز الطلب في الأسواق الصاعدة، وإعادة ترتيب أولويات الاقتصاد العالمي.
عوامل ثبات الطلب للنفط وتوازن الأسعار تظهر فراغاتها في الأزمات
يفترض أن يكون لتحالف «أوبك» دور فعَّال في توازن الأسواق، فتحايل بعض الأعضاء واستغلال الفرصة لتجاوز الحصص ليس مناسباً، كما انعكس في قرار الخميس الفائت، بمضاعفة إنتاج شهر مايو ثلاثة أضعاف.
بعد تفشي ظاهرة التخزين مرة أخرى أتمنى من «أوبك+» تقنين سقف الاستهلاك، وليس فقط الإنتاج، واستغلال فرصة انسحاب الولايات المتحدة من مؤتمر الأطراف باريس (المناخ)، غير المنطقي، لبناء قاعدة علمية، وليست تجارية، لارتفاع حرارة الأرض!
* خبير واستشاري نفط