في عام 1918، أذهل الساحر الشهير هاري هوديني الجماهير عندما جعل فيلاً يزن نحو 4.5 أطنان يختفي عن المسرح. وفي عام 2025، يبدو أن دونالد ترامب يحاول تنفيذ حيلة مشابهة، هذه المرة على خشبة مسرح الاقتصاد العالمي، وبدل الفيل هناك الدَّين القومي الأميركي الهائل. وأدوات الخدعة هي الرسوم الجمركية، والخطابات النارية، والاضطراب الاقتصادي.
وفي ظل تصاعد تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية جديدة تهز الأسواق العالمية، لم يعد السؤال المطروح: هل ستُعيد الرسوم الجمركية الوظائف إلى الولايات المتحدة؟ بل: لماذا الآن؟ وما الأهداف الخفية وراء هذا الاستعراض الاقتصادي؟
رسوم جمركية أم عرض مسرحي؟
فلننظر إلى الأساسيات:
- متوسط أجر العامل الصناعي في أميركا (2025): 20 دولاراً في الساعة.
- في الصين: نحو 6.25 دولارات في الساعة.
- راتب المهندس الأميركي الماهر: نحو 85 ألف دولار سنوياً.
- نظيره الصيني: نحو 20 ألف دولار سنوياً.
إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة في هذا السياق ليست سياسة اقتصادية وطنية، بل انتحار اقتصادي. فلو أعادت الشركات إنتاجها إلى الداخل الأميركي، فسترتفع تكاليف الإنتاج بشكل كبير. على سبيل المثال، الهاتف الذكي الذي يُباع اليوم بـ799 دولاراً قد يصل سعره إلى 1099 دولاراً.
وماذا ستكون النتيجة؟ انخفاض الطلب، ضعف المبيعات، وللمفارقة، تقليص الوظائف بدلاً من زيادتها.
الخدعة الحقيقية: خفض أسعار الفائدة بالضغط غير المباشر
بلغ الدَّين القومي الأميركي حتى العام 2025، نحو 34 تريليون دولار، مع فوائد سنوية تتجاوز 1.2 تريليون دولار، ما يعادل تقريباً ميزانية الدفاع الأميركي، وهو ما يعني أن نحو 15% من الإنفاق الفدرالي يُستهلك فقط في خدمة الدَّين.
ولو انخفضت أسعار الفائدة من المعدلات الحالية (4.25%–4.5%) إلى 1.7% كما كانت خلال جائحة كورونا، فإن تكاليف خدمة الدَّين السنوية ستتقلص إلى نحو 578 مليار دولار، أي توفير يزيد على 600 مليار دولار سنوياً.
لكن كيف يمكن التأثير على الاحتياطي الفدرالي من دون التدخل المباشر؟
يمكن ذلك من خلال:
- إعلان رسوم جمركية كبيرة، وإثارة حالة من عدم اليقين العالمي، وإشعال مخاوف التضخم، ودفع الفدرالي لخفض الفائدة، مع فتح باب الاقتراض الأرخص، وتحفيز الإنفاق، وخلق موجة من التفاؤل الاقتصادي. قد يكون كل ذلك خطة ذكية واستراتيجية، لكنها موقتة.
وهم الـ350 مليار دولار
يرى بعض المحللين أنه إذا التزمت كافة الدول بالرسوم الجديد، فقد تجني الخزانة الأميركية نحو 350 مليار دولار سنوياً. لكن هذا مجرد احتمال.
إذا فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية عامة على الواردات، فستعاني الدول الأخرى خصوصاً الاقتصادات الهشة من خسائر تجارية كبيرة. وإذا ردّت تلك الدول برسوم مماثلة (كما فعل الكثير بالفعل)، فسيدخل الجميع في دوامة من ارتفاع الأسعار، وانخفاض الصادرات، والانكماش الاقتصادي.
من السهل أن نتخيل أن أميركا وجدت «كيس ملاكمة» عالمياً لا يردّ، لكن الواقع يقول إن العالم قادر على الرد والأرجح أنه سيفعل. في هذه الحالة لن يكون هناك رابح. وترامب يعرف ذلك على الأرجح، ولهذا قد لا يكون الهدف تغييراً طويل المدى، بل تحركاً تكتيكياً قصير الأجل، يمتد من 6 إلى 12 شهراً، لخلق زخم سياسي واقتصادي قبيل الانتخابات.
اللوجستيات لا تزال مهمة
حتى لو تسارعت جهود إعادة التصنيع، فإن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تحل محل كفاءة الصين الصناعية بين ليلة وضحاها. فبفضل عقود من تجميع سلاسل التوريد، والموانئ، والعمالة الماهرة، تمتلك الصين ميزة لوجستية من الصعب تقليدها دون سنوات من الاستثمار.
واذا أخذنا شركة «آبل» مثالاً، فإن نقل تجميع هواتف «آيفون» إلى الولايات المتحدة سيرفع تكلفة العمالة لكل جهاز من 30 دولاراً إلى أكثر من 300 دولار. ولا يمكن لأي شركة تحمّل ذلك من دون رفع الأسعار أو تقليص الجودة، وكلا الخيارين لا يخدم العامل أو المستهلك.
إذاً، ما الذي تحققه الرسوم فعلياً؟
ستتدفق المليارات إلى الخزينة الأميركية، وسيتم تعزيز الموقف التفاوضي الأميركي في الاتفاقيات التجارية، إضافة إلى السيطرة على النقاش العام في وسائل الإعلام. إلا أن الإيرادات والنفوذ والعناوين الإعلامية، مرة أخرى، لا تخلق وظائف في اقتصاد عالمي تقوده التكنولوجيا.
وهم اقتصادي مدته 6–12 شهراً؟
قد تكون هذه الخطة مصممة فقط لدفع «الفدرالي» إلى خفض الفائدة، وإشعال موجة استهلاك داخلي، ورفع سوق الأسهم والعقارات وتقديم «خاتمة كبرى» يستقبلها الجمهور كدليل على «عبقرية ترامب الاقتصادية».
محلياً، قد تنجح. لكن عالمياً؟ سيخرج المتفرجون من مصدرين، ومستثمرين، واقتصادات عالقة في العاصفة وهم مثخنون بالجراح، حائرين، وأسوأ حالاً مالياً. وسيتذكرون العرض، لكن بسبب «الفوشار المر وتذكرة الدخول الباهظة».
الاستراتيجية الأذكى
على الولايات المتحدة أن تعيد تركيز طاقتها ورأسمالها نحو:
- الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية: أشباه الموصلات، التقنية الحيوية، تكنولوجيا الدفاع.
- تطوير مهارات العمالة لأدوار عالية القيمة ومحمية من الأتمتة.
- دعم التصنيع المتقدم والبحث والتطوير.
- تقوية التحالفات من خلال تجارة عادلة، وليس بالخوف من الرسوم.
الرسوم الجمركية قد تكون قنابل صوتية وأدوات تشتيت مفاجئة، لكن النمو الحقيقي يتطلب بناء الأساسات من جديد، لا مجرد حيل مسرحية.
الخلاصة
لا يمكنك أن تجعل 34 تريليون دولار من الديون تختفي بالسحر – لكن يمكنك تشتيت الانتباه بما يكفي لإعادة تشكيل السردية. قد لا تعيد تكتيكات ترامب التجارية الوظائف إلى المصانع، لكنها قد تشتري له الوقت، والضجة، وتخفيف أعباء الدَّين... وربما ولاية رئاسية جديدة. تماماً كما فعل هوديني، المسألة ليست في كيفية تنفيذ الخدعة، بل في ما إذا كان الجمهور سيصدّقها.