تتجه الأنظار مجدداً إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في وقت تعود ملفات التجارة الدولية لتشغل حيزاً كبيراً من النقاش السياسي والاقتصادي حول العالم. ومع فرض رسوم جمركية جديدة، ليس فقط على الصين، بل حتى على الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، تبرز تساؤلات عميقة حول الهدف الحقيقي من هذه السياسات. فهل نحن أمام فوضى اقتصادية مؤقتة، أم خطة مدروسة لإعادة صياغة النظام التجاري العالمي؟

إحياء الصناعة كأولوية استراتيجية

Ad

في صلب العقيدة الاقتصادية الجديدة التي يطرحها ترامب وفريقه، يكمن هدف رئيسي يتمثل في إحياء القطاع الصناعي الأميركي. فقد شهد هذا القطاع تراجعاً مستمراً منذ منتصف القرن العشرين. وفي الخمسينيات، كانت الصناعة تُشكل ما يقارب 28 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، فيما انخفضت هذه النسبة اليوم إلى نحو 10 في المئة.

ويرى مستشارو ترامب، وعلى رأسهم وزير الخزانة سكوت بيسنت والمستشار الاقتصادي ستيفن ميران، أن هذا التراجع لا يهدد فقط فرص العمل أو النمو الاقتصادي، بل يطول صميم الأمن القومي الأميركي.

الرسوم الجمركية: أداة تفاوضية

خلافاً للرأي السائد بين معظم الاقتصاديين، لا يرى فريق ترامب الرسوم الجمركية كعقوبات تجارية بقدر ما هي وسيلة ضغط تفاوضية. فهم ينطلقون من حقيقة أن الأسواق الأميركية تظل الأضخم عالمياً، وأن الدولار لا يزال العملة الاحتياطية الأولى، ما يمنح الولايات المتحدة قوة تفاوضية فريدة من نوعها. وتُستخدم الرسوم الجمركية، وفق رؤية ترامب، كمرحلة أولى من الضغط، تهدف إلى دفع الدول، سواء حليفة أو منافسة، إلى طاولة المفاوضات.

إعادة هيكلة النظام التجاري العالمي

يقترح فريق ترامب إعادة هيكلة النظام التجاري العالمي عبر تصنيف الدول إلى ثلاث فئات. حيث تتمتع الدول الحليفة التي تتماشى مع الرؤية الأميركية بامتيازات واسعة تشمل الوصول إلى السوق الأميركية والنظام المالي القائم على الدولار، فضلاً عن الحماية الأمنية والعسكرية.

في المقابل، تُعامل الدول التي تقع بالمنتصف وفق منطق المصالح المحدودة، فيما تُقصى الدول التي تُعد خصوماً استراتيجية من الامتيازات التجارية والمالية بشكل كامل.

التحدي: الصناعة والدولار في كفة واحدة

مع ذلك، تواجه هذه الرؤية تحدياً اقتصادياً معقداً يتمثل في التوفيق بين هدفين متناقضين تقليدياً: إعادة تنشيط الصناعة الوطنية من جهة، والحفاظ على مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية من جهة أخرى.

ويؤمن مستشارو ترامب بإمكانية التوفيق بين الهدفين من خلال التفاوض على اتفاق دولي جديد، مشابه لاتفاق «بلازا» في الثمانينيات، يتم فيه تنسيق أسعار الصرف بين الدول الكبرى لدعم الصادرات الأميركية دون المساس بالمكانة الدولية للدولار.

عنصر الثقة هو الفيصل

لكن نجاح هذه الخطة الطموحة يعتمد بشكل أساسي على عنصر الثقة. فالكثير من الدول لم تعد تنظر إلى الولايات المتحدة كشريك موثوق، خصوصاً بعد انسحابها من عدد من الاتفاقيات الدولية في السنوات الأخيرة، ما أثار تساؤلات حول مدى التزامها بالتحالفات التجارية والسياسية طويلة الأمد. وإذا كانت واشنطن تطلب من الدول أن تُعدل سياساتها النقدية والتجارية، وتُسهم في كلفة الحماية الأمنية، فإن ذلك يتطلب وجود ضمانات واضحة لا يمكن نقضها بسهولة.

أين تقف دول الخليج؟

من جانب آخر، فإن هذه التحولات المحتملة في النظام التجاري العالمي تستدعي من دول الخليج، ومنها الكويت، متابعة دقيقة وتقييماً استراتيجياً. فالنظام التجاري الذي لطالما اعتمد على علاقات متعددة الأطراف قد يتغيَّر، ليُصبح أكثر انقساماً وتكتلاً. وإذا ما طُبِّقت رؤية ترامب بالفعل، فقد تجد الدول الخليجية نفسها أمام خيارات حاسمة تتعلق بتحديد الشراكات، وتطوير سياسات صناعية محلية، والتعامل مع التغيرات في قيمة الدولار الذي ترتبط به عملاتها الوطنية.

ومن وجهة نظري، فإن الدول الخليجية أمام فرصة لإعادة تقييم موقعها في الاقتصاد العالمي، ليس فقط كمصدر طاقة، بل كمُشارك مؤثر في سلاسل التوريد العالمية، خصوصاً في ظل التحولات الكبرى نحو التصنيع الإقليمي وتقليص الاعتماد على الواردات الآسيوية.

وفي ظل تنامي التوجه نحو المناطق الاقتصادية الحُرة والصناعات المستدامة، يمكن أن تُعيد الكويت ودول المجلس صياغة علاقتها التجارية مع الولايات المتحدة، بما يضمن لها مكانة متقدمة في أي نظام اقتصادي دولي جديد.

عالم اقتصادي على مفترق طرق

ما نشهده اليوم قد لا يكون مجرَّد مواجهة اقتصادية عابرة، بل بداية لتحوُّل جذري في شكل النظام العالمي الاقتصادي. ترامب وفريقه لا يخفون طموحهم في إعادة رسم قواعد التجارة العالمية بما يخدم المصالح الأميركية أولاً. وبينما يرى البعض أن هذه الخطة تمثل تصحيحاً لانحرافات النظام الحالي، يرى آخرون أنها قد تُعمِّق الانقسامات وتُضعف الثقة في المؤسسات الدولية القائمة.

في كل الأحوال، يبقى عام 2025 محطة فاصلة في مستقبل الاقتصاد العالمي، وعلى الجميع الاستعداد لمرحلة جديدة قد تُعيد تشكيل العلاقات الاقتصادية كما نعرفها.