لستَ بحاجة أن تكون شيخاً أو فقيهاً لتشعر بما يحدث في غزة. يكفيك أن تقف بخشوع أمام كتاب الله، وأن تمر بعين المتأمل على قصص بني إسرائيل المتكررة، حيث يُذكر موسى عليه السلام أكثر من مئة وثلاثين مرة، لا عبثاً ولا تكراراً، بل لأن في سيرته وسير قومه مفاتيح لفهم سنن التاريخ، وكشف طبائع الجبابرة، وسلوك الأقوام الذين نقضوا العهود، وحرّفوا الكتب، وقتلوا الأنبياء.
وحين تقرأ في القرآن: قوله تعالى:
1- {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]
2- {وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181]
3- {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]
4- {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} [البقرة: 100]
5- {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء: 46]
6- {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]
7- {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [النساء: 155]
8- {وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا... إِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} الإسراء: 4–8]
هذه الآيات ليست للتاريخ المجرد، بل للتدبر الحيّ، خصوصاً حين ترى اليوم تجلي هذه الصفات في سلوك الكيان الصهيوني: إبادة جماعية، وقصف للمستشفيات والمدارس، وتجويع ممنهج، وخنق إنساني شامل، وتعذيب، وحصار، وإذلال يومي للمدنيين.
لقد بلغت آلة البطش في هذا الكيان طوراً من الاستكبار يُعيدنا إلى أوضح معاني الفرعون، ولكن بوجه حديث يلبس قناع الديموقراطية!
وعندما تشاهد ما يجري اليوم في غزة: من قصفٍ لا يفرق بين طفل وامرأة، ومن حصارٍ يخنق الحياة، ومن عدوانٍ يتباهى بدمار البيوت والمستشفيات، تدرك أن التاريخ لا يموت، وأن القرآن لا يحكي عن الأمس، بل يُضيء الحاضر، ويكشف الزيف.
إن ما يُمارَس على غزة ليس صراعاً متكافئاً، ولا نزاعاً سياسياً، بل هو تجلٍّ معاصر للطغيان. آلة عسكرية مدجّجة تُمطر حيّاً سكنياً بالصواريخ، باسم «الدفاع عن النفس»، وتحوّل المدارس إلى مقابر، وتُحاصر الشريان والوريد، وتُمارس الإبادة في وضح النهار.
والمؤلم أكثر من العدوان ذاته، هو هذا الصمت الدولي المهين، بل هذا الانحياز الفجّ من «العالم الحر» الذي صمت طويلاً، وتواطأ كثيراً، وبرّر دائماً، حتى سقطت آخر أوراق التوت عن حضارة تدّعي الإنسانية، لكنها لا تراها إلا حين تكون الضحية بيضاء.
هل تتصور أن تُقصف باريس بهذه الوحشية، ويُقال إنها «رد فعل مشروع»؟ هل يُذبح طفل أميركي وتُوصف الجريمة بأنها «دفاع عن الوطن»؟ لكن لأن الطفل فلسطيني مسلم، والأسرة محاصَرة، يصبح الموت تفصيلاً في نشرات الأخبار، بل مادة قابلة للتبرير السياسي.
لقد سقط القناع. سقط عن حكومات طالما تغنّت بالحريات، فتبين أنها لا تحزن إلا على القتيل الغربي، ولا تصرخ إلا حين يُمسّ أمنها. سقط عن مؤسسات إعلامية كبرى، اختارت أن تساوي بين الجلاد والضحية، أو أن تتبنى رواية المحتل بلا خجل. وسقط عن نخب فكرية وأكاديمية كانت تدّعي الموضوعية، فإذا بها تُبرّر القتل، وتُنظّر للسكوت.
غزة لم تُسقط فقط قنابل الاحتلال، بل أسقطت معها أسطورة الحضارة الغربية، وأعادت تعريف «حقوق الإنسان» كما يعرفها العالم: امتيازاً، لا حقاً؛ لوناً، لا مبدأ...
وها هو دونالد ترامب يكشف عن نظرة فوقية متجذرة، ليست فيه وحده، بل في المؤسسة ذاتها، بحيث لم تعد الديموقراطية لديهم حكم الشعب، بل وسيلة لتثبيت السيطرة، وإعادة إنتاج العبودية بصيغ اقتصادية وأمنية حديثة. لقد ضرب ترامب الجامعات ومكاتب المحاماة والتجمعات المجتمعية وقواعد النظام الأميركي بأجزائه، ثم بدأ بفرض الضرائب لكي يطوع الشركات الكبرى في أميركا وتأتي لأخذ الولاء له ولمجموعته ليستمر في السيطرة. هذه جزئية عن العنجهية التي تحكم أميركا الآن.
لكن المساءلة لا تقتصر على الآخر. السؤال الأهم يوجَّه إلينا نحن العرب، نحن المسلمين، نحن أبناء هذه الأرض وهذه العقيدة: كيف نرى غزة؟ هل نحزن يوماً وننسى أسبوعاً؟ هل نكتفي بالغضب الرقمي والتفاعل العاطفي، أم نُترجم حزننا إلى وعي، وغضبنا إلى مشروع، ووجعنا إلى بناء حضاري حقيقي؟
الجيل الجديد لم يعاصر النكبة، ولم يعش ويلات 67 أو الاجتياح، لكنه يرى اليوم، عبر هاتفه، مجازر تُبث على الهواء، وبيوتاً تنهار تحت أقدام ساكنيها، وأطفالاً يُنتشلون أشلاء.
ما وراء الأرقام: غزة كحقيقة كبرى
غزة ليست مجرد أرقام في تقارير.
هي أكثر من 50 ألف شهيد، ومئتي ألفي جريح، و3 ملايين محاصر.
هي أمٌّ تدفن طفلها وتتمسك بآية، وشابٌّ يخرج من بين الأنقاض ليهتف: «لن نُهزم».
هي شعبٌ لم يُهزم رغم القصف، ولم ينكسر رغم الحصار، ولم يُبع رغم الإغراء.
غزة تُعلمنا أن الكرامة لا تُقصف.
وأن الشعوب حين تُحاصر، قد تنزف، لكنها لا تموت.
خاتمة:
من تحت الركام... يولد النور غزة لا تطلب دمعاً، بل ضميراً.
لا تنادي بالعاطفة، بل بالوعي.
هي لا تبكي، بل تقف، وتُعلّم، وتُعيد تعريف الرجولة والشرف والانتماء.
من لم تهتز روحه أمام غزة، فليُفتّش عن إنسانيته.
ومن لم يُرَبِّ أبناءه على اسمها، فهو يفرّط في شرف الأمة.
غزة تقول لكل مَن سكت، أو تواطأ، أو تبلّد: «لن أختفي... أنا هنا، مرآتك... فانظر إن استطعت».
* وزير الصحة الأسبق
وحين تقرأ في القرآن: قوله تعالى:
1- {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]
2- {وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181]
3- {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]
4- {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} [البقرة: 100]
5- {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء: 46]
6- {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]
7- {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [النساء: 155]
8- {وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا... إِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} الإسراء: 4–8]
هذه الآيات ليست للتاريخ المجرد، بل للتدبر الحيّ، خصوصاً حين ترى اليوم تجلي هذه الصفات في سلوك الكيان الصهيوني: إبادة جماعية، وقصف للمستشفيات والمدارس، وتجويع ممنهج، وخنق إنساني شامل، وتعذيب، وحصار، وإذلال يومي للمدنيين.
لقد بلغت آلة البطش في هذا الكيان طوراً من الاستكبار يُعيدنا إلى أوضح معاني الفرعون، ولكن بوجه حديث يلبس قناع الديموقراطية!
وعندما تشاهد ما يجري اليوم في غزة: من قصفٍ لا يفرق بين طفل وامرأة، ومن حصارٍ يخنق الحياة، ومن عدوانٍ يتباهى بدمار البيوت والمستشفيات، تدرك أن التاريخ لا يموت، وأن القرآن لا يحكي عن الأمس، بل يُضيء الحاضر، ويكشف الزيف.
إن ما يُمارَس على غزة ليس صراعاً متكافئاً، ولا نزاعاً سياسياً، بل هو تجلٍّ معاصر للطغيان. آلة عسكرية مدجّجة تُمطر حيّاً سكنياً بالصواريخ، باسم «الدفاع عن النفس»، وتحوّل المدارس إلى مقابر، وتُحاصر الشريان والوريد، وتُمارس الإبادة في وضح النهار.
والمؤلم أكثر من العدوان ذاته، هو هذا الصمت الدولي المهين، بل هذا الانحياز الفجّ من «العالم الحر» الذي صمت طويلاً، وتواطأ كثيراً، وبرّر دائماً، حتى سقطت آخر أوراق التوت عن حضارة تدّعي الإنسانية، لكنها لا تراها إلا حين تكون الضحية بيضاء.
هل تتصور أن تُقصف باريس بهذه الوحشية، ويُقال إنها «رد فعل مشروع»؟ هل يُذبح طفل أميركي وتُوصف الجريمة بأنها «دفاع عن الوطن»؟ لكن لأن الطفل فلسطيني مسلم، والأسرة محاصَرة، يصبح الموت تفصيلاً في نشرات الأخبار، بل مادة قابلة للتبرير السياسي.
لقد سقط القناع. سقط عن حكومات طالما تغنّت بالحريات، فتبين أنها لا تحزن إلا على القتيل الغربي، ولا تصرخ إلا حين يُمسّ أمنها. سقط عن مؤسسات إعلامية كبرى، اختارت أن تساوي بين الجلاد والضحية، أو أن تتبنى رواية المحتل بلا خجل. وسقط عن نخب فكرية وأكاديمية كانت تدّعي الموضوعية، فإذا بها تُبرّر القتل، وتُنظّر للسكوت.
غزة لم تُسقط فقط قنابل الاحتلال، بل أسقطت معها أسطورة الحضارة الغربية، وأعادت تعريف «حقوق الإنسان» كما يعرفها العالم: امتيازاً، لا حقاً؛ لوناً، لا مبدأ...
وها هو دونالد ترامب يكشف عن نظرة فوقية متجذرة، ليست فيه وحده، بل في المؤسسة ذاتها، بحيث لم تعد الديموقراطية لديهم حكم الشعب، بل وسيلة لتثبيت السيطرة، وإعادة إنتاج العبودية بصيغ اقتصادية وأمنية حديثة. لقد ضرب ترامب الجامعات ومكاتب المحاماة والتجمعات المجتمعية وقواعد النظام الأميركي بأجزائه، ثم بدأ بفرض الضرائب لكي يطوع الشركات الكبرى في أميركا وتأتي لأخذ الولاء له ولمجموعته ليستمر في السيطرة. هذه جزئية عن العنجهية التي تحكم أميركا الآن.
لكن المساءلة لا تقتصر على الآخر. السؤال الأهم يوجَّه إلينا نحن العرب، نحن المسلمين، نحن أبناء هذه الأرض وهذه العقيدة: كيف نرى غزة؟ هل نحزن يوماً وننسى أسبوعاً؟ هل نكتفي بالغضب الرقمي والتفاعل العاطفي، أم نُترجم حزننا إلى وعي، وغضبنا إلى مشروع، ووجعنا إلى بناء حضاري حقيقي؟
الجيل الجديد لم يعاصر النكبة، ولم يعش ويلات 67 أو الاجتياح، لكنه يرى اليوم، عبر هاتفه، مجازر تُبث على الهواء، وبيوتاً تنهار تحت أقدام ساكنيها، وأطفالاً يُنتشلون أشلاء.
ما وراء الأرقام: غزة كحقيقة كبرى
غزة ليست مجرد أرقام في تقارير.
هي أكثر من 50 ألف شهيد، ومئتي ألفي جريح، و3 ملايين محاصر.
هي أمٌّ تدفن طفلها وتتمسك بآية، وشابٌّ يخرج من بين الأنقاض ليهتف: «لن نُهزم».
هي شعبٌ لم يُهزم رغم القصف، ولم ينكسر رغم الحصار، ولم يُبع رغم الإغراء.
غزة تُعلمنا أن الكرامة لا تُقصف.
وأن الشعوب حين تُحاصر، قد تنزف، لكنها لا تموت.
خاتمة:
من تحت الركام... يولد النور غزة لا تطلب دمعاً، بل ضميراً.
لا تنادي بالعاطفة، بل بالوعي.
هي لا تبكي، بل تقف، وتُعلّم، وتُعيد تعريف الرجولة والشرف والانتماء.
من لم تهتز روحه أمام غزة، فليُفتّش عن إنسانيته.
ومن لم يُرَبِّ أبناءه على اسمها، فهو يفرّط في شرف الأمة.
غزة تقول لكل مَن سكت، أو تواطأ، أو تبلّد: «لن أختفي... أنا هنا، مرآتك... فانظر إن استطعت».
* وزير الصحة الأسبق