لا أريد أن أعرف...

لا يريدون أن يعرفوا...

Ad

يبعدون أنظارهم عن الشاشات التي تطاردهم...

يأخذون المحرك، لينتقلوا من محطة لأخرى، ومن موقع لـ «إنفلونسر» لآخر، و«بلوغر» لأخرى!

ينتهي رمضان وأكوام الطعام التي رميت في مكبات النفايات تفوق التصور...

يأتي العيد، فتتلوَّن الشوارع بملابسهم وأفراحهم...

ينتقلون إلى مدن بعيدة «يعيثون» فيها استهلاكاً، يلتهمون الأطعمة، ويفترشون الأرصفة، نافثين دخان «الشيشة» أو «الأرجيلة»... يتزينون بأحدث منتجات بيوت الأزياء، الحقيقية منها، وتلك المقلدة، لماركات عالمية باهظة التكلفة، وينقلون صور أيامهم طبق الأصل إلى أي مكان ينتقلون إليه... يسرقون الأنظار بين الذكور والإناث، ويتنافسون على لفت الأنظار. أما الأكثر ثراءً، فيقضون أوقاتهم بين مطعمٍ فاخر ونادٍ ليلي، أو محلات أزياء في العواصم الأوروبية، حيث التباهي بأنهم مع عِلية القوم من تلك المجتمعات، مؤكدين بقايا عقدة الرجل الأبيض، والتماهي به، بل تقليده حتى في بعض تصرفاته المتعالية!

يرفعون صوت الموسيقى من سياراتهم الفارهة، ويتجوَّلون باحثين عن «صيد» ثمين! قد يُشفقون على بعض المتسولين في تلك العاصمة البعيدة، أو ذاك «الهوملس» الذي رفع لافتة «ساعدوني إنني جائع جداً»، فيشترون له «سندوتش»، أو يرمون ببعض القطع المعدنية، غير مُدركين أن هناك آلاف الجياع في الأرض القريبة منهم بين أهلهم. بعضهم يتباهى بالجلوس في المقاهي، خصوصاً تلك التي على رأس قوائم المقاطعة، لمناصرتها الصهاينة وحرب الإبادة، وربما يشتري لأطفاله ذاك المشروب الفوار الذي منذ أن تمَّت صناعته على يد الصيدلي جون ستيث بيمبيرتون في عام 1886 وهو يتحوَّل ليجاري ذوق الصهاينة، حتى إنه يحوِّل غطاءه إلى اللون الأصفر، ليواكب أعياد «الكوشر»!

يتباهون بأكياس قد تنفجر من الملابس من نفس تلك المحلات التي سخرت من المجزرة وتحدَّتهم جميعاً، أي الـ 430 مليوناً و2 مليار، بل وكل البشرية، فكان البعيد أكثر تضامناً من القريب والأهل! تتكدَّس الملابس وأهلهم عراة، نساءً وأطفالاً وشيوخاً ورجالاً أبرياء، إلا من حبهم لأرضهم ووطنهم، فتكون هدية أعيادهم هي مزيد من القذائف «الذكية» جداً، حيث تتطاير أجسادهم الندية... وهم هنا وهناك يصرخون: هل استمتعتم بالمشهد؟

إلا أنها وهو وهي يرددون لم يعد القلب قادراً على هذا الوجع، أطفئوا الأجهزة، واقلبوا المحطات، ودعونا نعيش، لأننا عاجزون! إلا أنه ليس بالعجز، بل هو الصمت ذاك الذي سيطاردنا جميعاً، لأننا يوماً ما وقفنا صامتين والجريمة علنية، بل الحرب على البشرية والإنسانية وكل أوصاف الحروب البشعة مستمرة أمام أنظارنا... وكل ما يقدرون عليه هو التبرير بأن «ما نحن قادرون على فعل شيء»، فكأن العجز وباء امتد لينال من كل منا، وكأنه من الصعب أن نكون كما يفعل كثير من أحرار الكون ومن المؤمنين بالإنسانية والدفاع عنها، بأن يتظاهروا، ويرفعوا الصوت، ويرفضوا الظلم، وينشروا عنه، وينشروا الوعي به، وأن يقاطعوا، ثم يقاطعوهم كلهم، وليس بعضهم، بل حتى مَنْ يرددون أننا عرب مثلكم، ولكنهم وتحت جلدهم متصهينون ومدافعون، وربما حتى مشاركون في الإبادة، رغم أنهم ليسوا ببعيدين عن أنظار وأطماع الصهاينة ومشاريعهم.

لعنة الصمت ستطارد الجميع، ولن تقف عند حدود، أو عند جيل، بل سيسأل الأطفال عندما يكبرون: أين كنتم؟ عندما تطايرت جثثهم، ثم سقطت على الأرض الطاهرة المرصعة بأشلائهم بعد أن سقاها دمهم الطاهر؟ وماذا فعلتم عندما صرخ الأطفال: سنموت من الجوع أو العطش أو القذيفة؟ هل رحلتم بأنظاركم وعُدتم تمارسون شهوات الأيام العادية، بل تبحثون عن ذاك المطعم أو تلك المدينة لقضاء الإجازة القادمة، وما بينهما حفلات الزواج والخطوبة وذكرى الزواج وأعياد الميلاد والهدايا الثمينة؟

لعنة الصمت أقسى من أضعف الأيمان والعمل، لكننا شعوب غيبت «مع سبق الإصرار والترصد» عن واقعها، وعاشت في فقاعة من الحسيات الباهتة، حتى غرقت فيها، ونامت في سبات عميق قد تفيق منه يوماً ربما، وقد تبقى تلعن الزمن والآخر، وربما المستعمر، قبل أن تنظر إلى داخلها، وتُطيل التأمل في واقعها، وقد تحوَّلت كما مَنْ يعيش على هامش البشرية، فلا إنتاج علمياً، ولا بحوث، ولا تعليم، ولا بناء لأوطان، ولا حتى المحافظة على ما تبقى من ملامح إنسانيتها وأخلاقياتها الماضية، لتتحوَّل إلى نماذج مكررة لأفراد كثيري الشبه حد الملل.

* يُنشر بالتزامن مع الشروق المصرية