يأخذك عنوان المعرض الجديد للفنانة المصرية آية الفلاح «رجل الجبنة القديمة»، إلى عالم مزدحم بالتساؤلات، إذ يبدو محمَّلاً بتفاصيلٍ قطعت رحلة طويلة في ذاكرة الفنانة منذ سنوات عمرها الأولى، إذ تجد نفسك تتساءل حتى قبل أن تقع عينك على لوحات المعرض: مَن هو رجل الجبنة؟ وكيف يمكن تشبيه إنسان بالجبنة؟ وهل يمكن أن تكون الجبنة مصدر إلهام ليبدع فنان أعماله الفنية تحت هذا العنوان اللافت؟!

ليس مطلوباً من الفنان التشكيلي أن يفسّر مغزى لوحاته، فكل متلقٍ قد يصله انطباعٌ معين أو رسالة ما بمجرد رؤية العمل الفني، لكن إماطة اللثام عن سر العنوان تسهّل على متذوق الفن التعاطي مع اللوحة والنظر إليها من نافذة أكثر اتساعاً، وتلك هي حال لوحات الفنانة آية الفلاح، في معرضها المقام حالياً في قاعة الزمالك للفن بالقاهرة.

Ad

تلتقط الفلاح أحد المشاهد القابعة في ذاكرتها البعيدة لرجلٍ يسكن في شارع جدتها كان دائماً يذكّرها بالجبنة القديمة، وهي أكلة مصرية معروفة منذ زمن الفراعنة، حتى أنها أطلقت على ذلك الرجل هذا الاسم المثير للدهشة: «رجل الجبنة القديمة»، لتستعيد ذلك المشهد بعد كل تلك السنوات وترويه مجدداً لوالدها الراحل في مجموعة من القصاصات الورقية والأعمال الفنية التي تمتزج معاً عبر رحلة تحاول فيها الفنانة أن تجد سبيلاً للتصالح مع ذاتها ولتقبل الواقع بصدماته وبمشاعر الفقد التي لا تجد متنفساً لها إلا من خلال التعبير بالفن، ولذا تبدو لوحاتها مثل تدوينات يومية مكثفة لا تخضع لقيود من أي نوع إلا أن تعبّر عما تشعر به ليغادر داخلها المزدحم إلى العالم الرحب في الخارج علها تشعر بالراحة.

من أعمال آية الفلاح

ذكريات الطفولة

النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي نقطة فاصلة في مكنون هذا المعرض، تفسِّر سبب اختيار عنوانه، حيث تستعيد الفنانة ذكريات أيام الطفولة وتعيد صياغتها في قالب فني بديع بالريشة والألوان. وفي النص المصاحب للمعرض، تلقي الفلاح هالة ضوء على مَنْ سمّته «رجل الجبنة»، فتقول مخاطبة والدها الراحل، إنها حين كانت طفلة صغيرة، كان هناك رجل في شارع جدتها، يشبه الجبنة القديمة، أو هكذا كانت تراه بعينها كطفلة، فقد كان كل شيء فيه لونه أبيض أو بيج... لون بشرته وشعره وملابسه، وكانت تشعر أنه رجل أتي من زمن قديم وليس مُسنًا. وتقول آية إنها حين تنظر الآن إلى الصور القديمة تشعر أن والدها هو الآخر يشبه رجل الجبنة القديمة!

وعبر رحلتها الفنية، تتنوع الممارسات الفنية التي تعبّر بها الفلاح عن ذاتها، ومن بينها التصوير بمختلف خاماته و«الفيديو أرت» وغير ذلك من وسائط التعبير، لذا نجدها في معرضها الجديد توظِّف العديد من الخامات التي تستخدم كثيراً منها للمرة الأولى في مسطحها التصويري، ومن بينها الخيوط، وبكرات اللصق (السولتيب) بأنواعه المتعددة، وأصابع الشمع، وغيرها من الخامات التي تعكس جرأتها كفنانة في استخدام الخامات المختلفة والمزج بينها.

كتابات ورسومات

وتتنوع المقاسات التي تقدمها الفلاح في معرضها وكذلك المعالجات الفنية، والتي نجد من بينها أيضاً توظيف مجموعة من الدفاتر القديمة بما تحمله من كتابات ورسومات وبقع لونية، لتبني من جديد على تلك البقايا، تخفي منها ما تخفي وتبرز ما تبرز، لتؤكد أنه مهما مر علينا من صعاب فإن ثمة طريقة لإيجاد سبيل جديد للاستمرار في الحياة، حتى لو بطمس بعض الملامح الراسخة في داخلنا.

وحول هذه التجربة تقول آية: «ربما أصعب ما في عملية إعادة توظيف الدفاتر القديمة، هو تلك المرات التي حملت الأوراق صور أشخاص قريبين من روحي، إذ إن اتخاذ قرار طمس وجوه موجودة كان يثير موجة من المشاعر بداخلي».

أما عن توظيف الكتابة، فهو أمر ممتد من تجربة آية السابقة، لكن رسائلها أصبحت أكثر وضوحاً في بعض الأحيان، ربما لأنها تخاطب روح والداها الراحل.

التفاعل مع الأحداث

يُشار إلى أن آية الفلاح وُلدت في القاهرة عام 1986، وتخرجت في كلية الفنون الجميلة 2008. وهي تعيش وتعمل بين القاهرة وأبيدجان بساحل العاج. وتعتبر أعمالها الفنية نتاج تفاعلها الشخصي مع الأحداث التي تمر بها في حياتها والأماكن التي تعيش فيها، إنها بالأحرى تسجيل مستمر لحالتها العاطفية والعقلية، إذ تشتبك الفلاح مع مسطحها وتتحاور معه بحثاً عن نفسها قبل أي شيء.

وشاركت الفلاح في العديد من الفعاليات الفنية والثقافية في مصر وخارجها، بما في ذلك فرنسا والإمارات وألمانيا وإيطاليا وساحل العاج. وتأثرت كثيراً بأسفارها واحتكاكها بثقافات متعددة وانعكس ذلك على أعمالها الفنية. ويعتبر «رجل الجبنة» معرضها الفردي الخامس بخلاف مشاركتها في أكثر من 60 معرضاً جماعياً.