أحدث حضور مرسي جميل عزيز دوياً في الساحة الشعرية، وسط جيل من عمالقة الشعر الغنائي، مثل بيرم التونسي وأحمد رامي وحسين السيد ومأمون الشناوي وعبدالفتاح مصطفى وأحمد شفيق كامل، واستطاع أن يخطف الأضواء في وقت قياسي، وانصهرت لديه الهواية في بوتقة الاحتراف.

ظاهرة فنية

Ad

كتب مرسي جميل عزيز، الأغنية بألوانها المختلفة العاطفية والوطنية والشعبية والدينية، ووصلت لأكثر من ألف أغنية وقصيدة، ولذا لُقِب بـ»شاعر الألف أغنية»، بجانب كتابته الأوبريت الغنائي والقصة القصيرة والسينمائية وسيناريوهات بعض الأفلام، وأيضاً كانت له مقالات أدبية في الصحف والمجلات المصرية، واعتبره النقاد ظاهرة أدبية وفنية بارزة.

ووجدت أشعار عزيز طريقها إلى كبار الملحنين، منهم الموسيقار محمد عبدالوهاب ورياض السنباطي وأحمد صدقي ومحمود الشريف ومحمد فوزي وكمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي، وساهم في إثراء الساحة الغنائية بروائعه المفعمة بالأمل والرومانسية والبهجة.

ويعد مرسي جميل عزيز الشاعر المعاصر الوحيد في مصر الذي غنّت له السيدة فيروز وسجلت قصيدته الفصحى «سوف أحيا» أثناء زيارتها والرحبانية إلى القاهرة، وأصبحت الأغنية بعدها واحدة من أهم الأغنيات في تراث الإذاعة المصرية. ويقول مطلع الأغنية: « لِمَ لا أحيا وظلّ الوردِ يحيا في الشفاه، ونشيد البلبل الشادي حياةٌ لِهَواه، لمَ لا أحيا وفي قلبي وفي عيني الحياهْ، سوف أحيا.. سوف أحيا».

تغنى معظم المطربين بكلمات مرسي جميل عزيز، وغنّت له أم كلثوم الثلاثية الشهيرة التي لحنّها بليغ حمدي «سيرة الحب، وفات المعاد، وألف ليلة وليلة»، وشكلّت مرحلة جديدة لكوكب الشرق بعد اعتمادها لسنوات طويلة على ألحان الشيخ أبوالعلا محمد ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي وأشعار أحمد رامي وبيرم التونسي.

واستشعرت كوكب الشرق أنها بحاجة لمواكبة التطور، وتعاونت منذ بداية الستينيات مع جيل الفنانين الشباب، منهم الملحنون كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي والشعراء مأمون الشناوي وعبدالفتاح مصطفى وأحمد شفيق كامل وصلاح جاهين وعبدالوهاب محمد ومرسي جميل عزيز، وجاء لقاؤها بالموسيقار محمد عبدالوهاب متأخراً، لاشتعال المنافسة بينهما لسنوات طويلة.

أول غرام

والتقى عزيز بالموسيقار رياض السنباطي في أغنيتين، الأولى «الفراشة» عام 1939، وغنتها المطربة حياة محمد، وكانت أول أغنية تسجلها الإذاعة المصرية لشاعر في الثامنة عشرة من عمره، وعبّر فيها عن مشاعره من خلال صور شعرية تتغنى بجمال الريف، وتقول كلماتها:

«فراشة حايرة بين الأزهار، طايرة مع النسمة الهادية، بينها وبين النور أسرار، تقولها للزهرة النادية، تبوس في وردة، وتشم في وردة، وتضم وردة وتناجي وردة».

وفي العام ذاته، انطلقت شهرته، عندما كتب أغنية «يا مزوق يا ورد في عود»، ولحنها وغناها المطرب عبدالعزيز محمود. وتكرر تعاونهما الفني في «منديل الحلو»، و«مكاحل مكاحل»، و«يا نجف بنور»، و«بلدية وحبيبي»، و«خد الجميل»، و«جلاب الهوى».

ولحن السنباطي من كلمات مرسي جميل عزيز «قلبي مخاصمني» في فيلم «أول غرام» 1956، للمخرج نيازي مصطفى، وغناها المطرب اللبناني محمد مرعي، والأخير غنى لعزيز في نفس الفيلم «لا يا حلو لأ» ألحان كمال الطويل، وحققت شهرة كبيرة في ذلك الوقت، وأخيرًا استعادها المطرب مدحت صالح في حفلاته الغنائية، ضمن روائع أخرى يغنيها باقتدار من إبداع عزيز وعمالقة العصر الذهبي للأغنية المصرية.

صانع النجوم

وشكّل حضور مرسي جميل عزيز ظاهرة شعرية فريدة، وساهمت أغانيه في نجومية العديد من المطربين والمطربات في بداية مشوارهم الفني، منهم المطربة فايزة أحمد، وكان أول مَنْ تحمس لموهبتها، وقدّمها في الإذاعة المصرية بعد أن جاءت من سوريا، ومن أغانيه الشهيرة لها «تمر حنة»، و«بيت العز يا بيتنا»، و«يامه القمر ع الباب»، و«حيران»، و«ليه يا قلبي ليه» وجميعها من ألحان الموسيقار محمد الموجي.

وساهم عزيز في اكتشاف موهبة المطرب محرم فؤاد، وألّف له كلمات أغاني «رمش عينه»، و«الحلوة داير شباكها» ألحان الموجي في فيلمه الأول مع السندريلا سعاد حسني «حسن ونعيمة» (1959) إخراح هنري بركات، ولاحقاً غنى له فؤاد «أنت عني بعيد»، و«داري جمالك»، وشفت بعيني»، و«النبي لنكيد العُزّال»، و«يا حبيبي قولي آخرة جرحي إيه» من ألحان الموجي، و«سلامات يا حبايب» و«يا غزال إسكندراني» ألحان بليغ حمدي.

وتعد «سلامات يا حبايب» من أشهر الأغاني الوطنية لمرسي جميل عزيز، وجسد خلالها قيم الانتماء وحب الوطن، وتقول كلماتها: «سلامات يا بلدي، سلامات يا حضن بلدي، سلامات يا أهل بلدي، عديت بحر الليالي، ونزلت مئة مدينة، لقيت الشوق لبلدي، سابقني في كل مينا، سافرت بلاد بعاد، وبلاد غير البلاد، وقلبي هو هو مش قادر ع البعاد».

مولد شاعر

وُلِد مرسي جميل عزيز في يوم 9 يونيو 1921، بمدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية (شمال شرق القاهرة) لأب كان يعمل تاجر فاكهة، وتأثر بنداءات الباعة على الفاكهة وبالأغاني الشعبية، وكان لأبيه دور في حياة نجله واهتماماته الأدبية والفنية منذ صغره، فحفظ الكثير من آيات القرآن الكريم، والمعلقات السبع كاملة، وكتب أول قصيدة في سن الثانية عشرة في رثاء أستاذه، وقرأ لكثير من الشعراء القدامى منهم أبو فراس الحمداني وأبو الطيب المتنبي وامرؤ القيس، والنابغة الذبياني، ومن المعاصرين أحمد شوقي وخليل مطران وجبران خليل جبران، وعبدالله النديم وبيرم التونسي.

حصل عزيز على شهادة البكالوريا من مدرسة الزقازيق الثانوية عام 1940، والتحق بكلية الحقوق، وهناك أصبح رئيساً وعضوًا لعدة جماعات أهمها الشعر، والآداب، وفنون التصوير، والموسيقى، والتمثيل، كما انضم لفريق الرحلات، لكنه قطع دراسته للقانون، وبدأ حياته المهنية تاجر فاكهة مثل والده.

وظل عزيز يكتب الشعر، ولم يكتف بموهبته فقط، فدرس اللغة العربية والشعر والأدب والتراثين العربي الحديث والقديم، وكذا الأدب العالمي وأصوله ونظرياته وقواعده النقدية، كما التحق بمعهد السينما، وكان الأول على دفعته، وحصل على دبلوم في فن كتابة السيناريو عام 1963.

أم كلثوم تنصح الشاعر الشاب بدخول «مصحة نفسية»

تأخر لقاء أم كلثوم ومرسي جميل عزيز لسنوات طويلة، بينما تغنى الكثير من المطربين والمطربات بأشعاره، وانطلقت شهرته في وقت قياسي، وساهمت موهبته المتفردة في صنع نجوم كبار، وظل إبداعه متدفقاً، واستلهم كلماته من الحياة البسيطة متأثراً بنشأته في منطقة ريفية.

ومزج عزيز بين العامية واللغة العربية الفصحى ليحدث ثورة في الإذاعة المصرية التي كانت تقاليدها إذاعة أغانٍ لشعراء باللغة العربية الفصحى، فصنع لنفسه بصمة ميّزته عمنْ سبقوه، وتعددت ألقابه، منها «ملك الحروف»، و«موسيقار الكلمات»، و«شاعر الألف أغنية»، محاوِلةَ وصف إبداعه في تقديم أغانٍ متفردة، لا تزال تعيش في الوجدان رغم مرور سنوات طويلة على رحيله.

وبزغت قدرات عزيز مبكراً، حتى أنه كتب أولى أغنياته «الفراشة» في الإذاعة المصرية ولم يتجاوز عمره 18 عاماً ولحنها رياض السنباطي، ووقتها كان لا يزال طالباً في كلية الحقوق، لتفتح له أبواب الشهرة على مدار أربعة عقود متواصلة. وفي ذلك الوقت، كان يتمنى كثير من الشعراء والملحنين التعاون مع أم كلثوم، بينما مرسي جميل عزيز يهرب من العمل معها، وهو ما سبّب حالة من التعجب الشديد لأم كلثوم، وقالت له إنه بحاجة لطبيب أمراض نفسية يكشف على سلامة قواه العقلية.

وسرد عزيز تفاصيل تلك الواقعة في لقاء تلفزيوني، وقال: «كنت أهرب من الشغل مع أم كلثوم، لأنني لا أحب أن يقال إنني أعمل معها للتسلق على شهرتها، فكنت أرفض هذا الموضوع، وابتعدت تماماً حتى طلبتني ذات مرة وقالت لي لماذا تهرب من العمل معي؟ أنت بحاجة لطبيب نفسي، وذكرتُ لها الأسباب فأكدت أن كلامي صحيح ولكن من عشر سنوات، أما الآن بعد أن حققت نجاحاً كبيراً وأصبح لي اسمي فلا يستطيع أحد أن يقول ذلك، واقتنعت بكلامها وقدمت لها ثلاث أغانٍ، وتركت لي الاختيار، فبدأت بأغنية (سيرة الحب) ولحنها بليغ حمدي، وكان لحناً موفقاً جداً حتى أن محمد الموجي تعجب من موقفي وموافقتي بعد رفضي».