لطالما شكل الرأي العام محوراً أساسياً في صناعة الاتجاهات العامة، كونه يمثل قوة ضاغطة وصوتاً مجتمعياً يؤثر في عملية صنع القرار السياسي والتشريعي على المستويات الوطنية والدولية.
يعرف الرأي العام بأنه مجموعة المواقف والتصورات التي تتشكل في المجتمع حيال قضايا معينة، سواء كانت اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية، وهي تنبع من تفاعل مجموعة الأفراد مع الأحداث والمستجدات التي تهمهم، لذا يعتبر الرأي العام ظاهرة جماعية بامتياز، إذ لا يمكن فهمه أو تحليله على مستوى فردي، بل من خلال تحليل الأنماط الجماعية التي تُبرز توجهات وميول المجتمع كله.
يتجاوز الرأي العام مجرد التعبير عن المواقف والآراء الفردية، ليصبح عنصراً محورياً في ديناميكية عمل السلطات، إذ يتجلى تأثيره في جميع المراحل، بدءاً من صياغة السياسات وصولاً إلى تفعيلها أو تغييرها وتطويرها من خلال التأثير المباشر أو غير المباشر في العاملين بالشأن العام.
في هذا السياق، يعتمد السياسيون على معرفة اتجاهات الرأي العام لتكييف مواقفهم وبرامجهم بما يتناسب مع توقعات الشعب والناخبين، كما تقوم الحكومات بتوجيه وتعديل سياساتها الاقتصادية أو الاجتماعية استجابةً لمتطلبات الرأي العام ورؤيته حيال قضايا معينة، مثل توفير فرص العمل، وتحسين الخدمات الصحية، ومكافحة الفساد.
***
تتأثر المواقف المشكلة للرأي العام بوسائل الإعلام، المنصات الاجتماعية، النخب السياسية والثقافية التي تلعب دوراً كبيراً في توجيه النقاشات وتشكيل الآراء في القضايا العامة، لذا تتبلور أهمية العمل الجدّي على تطوير الرأي العام وتوجيهه الى خدمة الاستقرار المجتمعي وتثبيت أواصر الديموقراطية، وهذه عملية مستمرة تهدف إلى تعزيز وعي الأفراد، وزيادة مشاركتهم الفعالة في النقاشات المجتمعية والسياسية، وإثراء قدراتهم على اتخاذ مواقف مستنيرة، من خلال مجموعة من العوامل والتوجهات المتكاملة، نذكر منها:
- التعليم، وهو يُعد من الركائز الأساسية لتطوير الرأي العام، إذ يساهم في كل مراحله ومستوياته في تعزيز معرفة الأفراد بالقضايا المجتمعية والسياسية المعقدة، ويشمل ذلك صقل المهارات النقدية وتثقيف المواطنين حول حقوقهم ومسؤولياتهم، مما يمكنهم من التمييز بين المعلومات الصحيحة والمغلوطة وتقييم الأخبار والسياسات بموضوعية.
- الشفافية التي تؤدي دوراً جوهرياً في بناء رأي عام ناضج ومستنير، ويشمل ذلك إتاحة المعلومات العامة والاستماع للرأي العام من خلال قنوات تواصل مباشرة تسهّل من إمكانية تكوين سياسات قائمة على حقائق ومعطيات دقيقة، مما يعزز ثقة الشعب في مؤسساته.
- وسائل الإعلام المستقلة والمسؤولة، وهي تلعب دوراً حاسماً في تكوين الرأي العام وتطويره من خلال توعية الأفراد بكيفية تحليل الأخبار واكتشاف المعلومات المضللة، مما يعزز من قدرة الجمهور على اتخاذ قرارات وطنية، واعية وغير متحيزة.
- وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت منصة قوية للتعبير عن الرأي العام والتأثير في تكوينه، ويقتضي بذل الجهد لاستخدامها بشكل إيجابي لنشر المعلومات الصحيحة، التفاعل مع الجمهور، ومكافحة الأخبار الكاذبة، مما يسهم في تطوير رأي عام موضوعي وواعٍ.
- المساهمة الفاعلة لجمعيات النفع العام المحلية في توعية المواطنين وتمكينهم من الانخراط في الحياة العامة، من خلال تنظيم ورش العمل والمؤتمرات وتشجيع المشاركة المجتمعية، وتعزيز الوعي بالقضايا الاجتماعية والسياسية من خلال سلسلة حوارات هادئة وهادفة.
- الدراسات العلمية والمسوحات الموضوعية حول الرأي العام وتوجهاته، الأمر الذي يساهم في تطويره بشكل مدروس، وهنا تبرز أهمية دعم وتشجيع مثل هذا النوع من الأبحاث لفهم التوجهات الشعبية وتحليلها بعمق لتعزيز مشاركة الأفراد بشكل أفضل.
- تشجيع المواطنين على الانخراط في الحياة السياسية من خلال العمل الوطني لا الفئوي، مما يسهم في تعزيز الوعي الجماعي وتطوير آرائه حول القضايا الكبرى التي تؤثر على واقع الجيل الحالي ومستقبل الأجيال القادمة.
***
يسود الرأي العام العربي حالة من الارتباك والتشويش، نتيجة تداخل عدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وتكنولوجية، فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت منصة لنشر الفوضى في نقل الأحداث والأخبار وتحليلها، مما فتح المجال أمام أي شخص -ولو من غير أصحاب الاختصاص والخبرة- لأن يؤثر وربما يوجه جزءاً وازناً من الرأي العام دون الالتزام بمعايير الحقيقة أو الموضوعية، هذا بالإضافة إلى ممارسات بعض من يستمرئون الخطاب الشعبوي والفئوي ويستغلون المنابر والمنصات لإثارة الجدل حول قضايا حساسة من شأنها المساس بهيبة الدول وزعزعة الاستقرار المجتمعي وإحداث شروخ في وحدة الصف الوطني.
ومن هنا تأتي أهمية الخطوات الجدّية والإجراءات الحازمة التي من شأن اتخاذها الانعكاس الإيجابي على تصويب بوصلة الرأي العام وإعادة توجيهه بطريقة تحافظ على استقرار المجتمع وتعزز الديموقراطية الحقيقية التي لا تتواءم مفرداتها مع إثارة القضايا الشعبوية لتحقيق مكاسب شخصية.
وهذا يجب أن يترافق مع خطوات تنموية سريعة وفاعلة، وتقديم حلول واقعية وملموسة، بهدف تحسين الظروف المعيشية للأفراد مما يعزز من ثقة المجتمع بالجهات المسؤولة عنه، ويدفع المواطنين إلى الانخراط في منظومة التنمية الشاملة والمستدامة ودعم التوجهات والإجراءات الحكومية ذات الصلة.
* كاتب ومستشار قانوني