يوشك رمضان أن ينتهي ويسدل الستار على ختامه ويجري الكثيرون لهثاً بحثاً عن ملابس العيد وكعكه، وآخرون بالطبع يفضلون أن يقضوا العشر الأواخر قريبين من الحرم المكي في مكة يسجدون ويركعون ويصلون ويتعبدون ثم ينهون يومهم بموائد «متخمة» بالطعام الذي ينتهي الكثير منه في سلال القمامة، وهي أكثر ما يخيم على أجواء رمضان كل عام. كثير من الصوم والتعبد وقراءة القرآن في الكثير من الأحيان دون استيعاب معانيه والعبر والحكم من الصيام والخشوع والصلاة في هذا الشهر.
يخلع بعضهم أو بعضنا عباءة ويلبسون تلك الخاصة بهذا الشهر ومعه يتحول فجأة كثير منهم إلى وعاظ ودعاة، وما إن تطلق مدافع العيد حتى يعود الكل إلى روتين يومياته وكأنهم قد سددوا دينهم لربهم وانتهى! يراقب العالم المسلمين ويتربص لهم طبعاً لأن هناك بالطبع كثيراً من «الإسلاموفوبيا» والفكر اليميني المتطرف يجتاح الدول «الديموقراطية» جداً حيث حقوق الإنسان لهم وحدهم. ولكنْ هناك أيضاً كثير من الدراسات التي تشير إلى التناقض لدى المسلمين بين ما يقولونه وما يفعلونه، وهم في ذلك وفي دراساتهم ودراساتنا ليسوا مخطئين، فالسؤال: «ماذا حدث لنا؟» يطلقه كثير منا نحن قبلهم هناك.
بعض المخضرمين مثلنا يتذكرون رمضان بشيء من الحنين، بل ربما الوله، أما الآخرون، أي جيل العقود الثلاثة الأخيرة، فهم يتصورون رمضان كأنه «كرنفال» أو موسم بطقوس احتفالية مستمرة في معظمها تتناول السهر والأكل، بل مزيداً من الطعام حتى التخمة ومسلسلات رمضانية حتى التخمة الذهنية أيضاً. نعم كيف أصبح رمضان مرتبطاً بالمسلسلات أو الدراما التلفزيونية بل بات موسماً للإعلانات التي تكلف ملايين الدولارات لمزيد من الاستهلاك، ذاك المرض الذي غزا العالم مع عولمته وتسلل لبيوتنا كلنا دون استثناء، الفقير كما الغني، والمثقف أو المتعلم كما الجاهل، والمتدين كما «النص نص» حتى لا نستخدم كلمة ملحد فنسقط في مستنقع سردية بعض التكفيريين «المتنكرين» في بدلات وربطات عنق فخمة أو حتى عباءات حريرية!. كلهم، بل كلنا مستهلكون غير منتجين وأحيانا نتباهى باستهلاكنا وتبعيتنا واستيرادنا المفرط، بل نبيع صناعاتنا أو ما تبقى منها ونتحول إلى اقتصادات ريعية معتمدة على السياحة والترفيه رغم أن كليهما لو استُخدما بحكمة لتحولا إلى مصدر مهم للاقتصادات الوطنية، ولكن!!
أثار رمضان 2025 فضول واهتمام بعض كتاب الصحف الأجنبية، وكلهم يتساءلون بعد أكثر من عامين من حرب الإبادة ماذا حدث للمسلمين والعرب وهم يراقبون لحظة بلحظة مشاهد الموت الحي للفلسطيني والعربي الذي يقاوم معه ويسانده، بينما الآخرون منا مستمرون في حياة موازية، بل يتسابقون للحصول على لقمة لإفطارهم، ونحن جميعاً نجلس متحلقين حول موائد عامرة بما لذا وطاب وما زاد عليهما! ربما لأنهم يدركون أن الدراما هي جزء من الثقافة العامة للشعوب وانعكاس لها بل هي أداة من أدوات التوجيه التي أتقن الأميركيون والأوروبيون استخدامها في حروبهم، العلنية منها، وتلك الحروب الثقافية المختفية تحت غطاءات متعددة! فلا ينسى أحدنا كيف صورت هوليوود الأميركيين الأصليين، أو المسلمين، أو العرب، أو الأفارقة، أو الآسيويين، كلهم تحت صور نمطية رسموها هم كأي مستعمرين محترفين!
أما سمدار بيري الكاتبة في صحيفة «يديعوت أحرونوت» والتي طالما تفاخرت بأن مقالاتها كلها بناء على علاقات واسعة نسجتها مع «نخب» عربية، فقد تداولت مسلسلات رمضان في إحدى مقالاتها لتشير إلى أنه لا يوجد أي مسلسل يتناول «إسرائيل» أو حتى الحرب على غزة، ولا أي مسلسلات كما كان الحال في الماضي حول التجسس ضد العدو الصهيوني، وذلك بعد أن شرحت أن معظم «أصدقائها» من النخب العربية الذين هنأتهم بحلول الشهر الكريم شكروها وأضافوا أنهم على قناعة بأن رمضان لن يكون هادئاً، ولكنهم لم يعلقوا معها ولها عن المجازر المستمرة بحق أهلنا في غزة وأنه لا صيام لدى الصهاينة عن الحروب، بل إن مخططهم مستمر وطائراتهم وصواريخهم تعربد في السماوات العربية القريبة، وربما البعيدة أيضا.
هي بالطبع تتذكر بينما ربما نسى بعض العرب تلك الأيام حيث كانت شوارع القاهرة وغيرها من العواصم والمدن العربية تخلو من المارة عند بث مسلسل مثل رأفت الهجان، وبعده سلسلة المسلسلات التي تناولت رجال المخابرات المصرية الذين تغلغلوا في النسيج الاجتماعي الصهيوني، وكانت لهم كثير من الإنجازات التي انعكست في حروب مصر والعرب. سلسلة من المسلسلات التي كانت تزين ليالي رمضان مثل دموع في عيون وقحة، الحفار، الزيبق، السقوط في بئر السبع، الصفعة، حرب الجواسيس، عابد كرمان وغيرها، حتى إن لم تكن في مجملها على نفس الدرجة من التقنية في الفن والتمثيل والسيناريو إلا أنها جميعاً «عيشت» العرب تجارب مهمة من تاريخهم الحديث أو كشفت عن بعضه. يسدل رمضان 2025 الستار ومجرمو الحرب يتوعدون بمزيد من الإبادة لأهل غزة، بل يرسمون الخرائط لمنتجعاتهم السياحية القادمة فوق جثث الأطفال والنساء وكل المؤمنين في غزة وفلسطين.
* يُنشر بالتزامن مع الشروق المصرية