حمل زكريا أحمد راية المسرح الغنائي بعد وفاة درويش عام 1923، فلحّن لفرقة علي الكسار وزكي عكاشة ومنيرة المهدية، ونجيب الريحاني الذي وضع زكريا ألحان واحدة من أهم رواياته المسرحية «الدنيا على كفّ عفريت» (1937)، وإجمالًا قدّم حوالي 500 لحن في 65 مسرحية، وانتقدت هذه الأغنيات التي أبدع ألحانها الوضع الاجتماعي والسياسي بالمجتمع المصري في تلك الفترة.

وكان الملحن الشاب يعتمد في ألحانه على آلة العود، ويجري البروفات مع الفرقة الموسيقية، وفي ذلك الوقت كانت العروض المسرحية غير مسجّلة، ولذا اندثرت معظم ألحان المسرح الغنائي في بدايات القرن الماضي، ومنها تراث زكريا أحمد ورواد التلحين لهذا اللون الفني؛ مثل سيد درويش وسلامة حجازي، بينما كثير من الأغنيات القديمة، تناقلتها الأجيال عبر الأسطوانات وتسجيلات الإذاعة المصرية والعربية. ترك رحيل درويش المباغت أثره الموجع في قلب زكريا أحمد، وقرر التلميذ أن يسير على نهج معلمه في التعبير الدرامي، وشكّلت ألحانه حالة استثنائية في عصره، وتفرّد في المزج بين التطريب والتمرد على الرتابة التي طغت على أعمال بعض الملحنين، لكنه ظل الحارس الأمين للمقامات الشرقية، دون الجنوح إلى التجديد، وإدخال الإيقاعات الغربية مثل «الفالس والتانغو»، مثلما فعل محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب.

وحلّق زكريا أحمد في عالم الشهرة مع كوكب الشرق أم كلثوم، ولحّن لها الكثير من الأغنيات الناجحة، ومن أبرزها «أنا في انتظارك»، و«حبيبي يسعد أوقاته»، و«أهل الهوى»، و«الأولة في الغرام»، و«عن العشاق سألوني»، و«الأمل لولاه عليا»، و«حلم»، و«جمال الدنيا»، و«الورد جميل»، و«هو صحيح الهوى غلّاب»، و«قولي ولا تخبّيش».
Ad


وأضحى زكريا أحمد من أهم كبار الملحنين في عصره، وصعد إلى القمة مع محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي وغيرهم، وكان أغزرهم لحنًا وحضورًا في الساحة الغنائية، وشدا من ألحانه مجموعة كبيرة من ألمع الأصوات العربية، منهم صالح عبدالحي، ونادرة، وأسمهان، وفتحية أحمد، وليلى مراد، ونجاة علي، ومنيرة المهدية، ونجاة الصغيرة، ونجاح سلّام، ومحمد قنديل، وغيرهم.

جريح الغرام

تركت مدرسة التجويد القرآني والتواشيح الدينية أثرها العميق في تكوين زكريا أحمد الموسيقي، وبرزت موهبته في تلحين الموشحات، وانتقل بها من مرحلة التطريب إلى الأداء التعبيري الدرامي، ومنها «يا جريح الغرام»، و«يا رشيق القوام»، و«قد حركت أيدي النسيم»، و«سلو الندمان عن حبي»، وبات واحدًا من أبرز الملحنين الذين حافظوا على هذا الفن من الاندثار.

ويُعد زكريا أحمد من رواد التلحين في السينما، فقد لحّن نحو 37 فيلمًا غنائيًا، من أشهرها «أنشودة الفؤاد» (1932)، أول فيلم غنائي مصري، وقامت ببطولته المطربة نادرة والفنان جورج أبيض، ومن إخراج الإيطالي ماريو فولبي، وفيلم «وداد» (1936) بطولة أم كلثوم ومنسي فهمي ومحمود المليجي، وأخرجه الألماني فريتز كرامب، وساعد في الإخراج أحمد بدرخان، و«نشيد الأمل» (1937) بطولة أم كلثوم وعباس فارس وزكي طليمات، و«عاصفة على الريف» (1941) بطولة يوسف وهبي وأمينة رزق وزوزو نبيل، وإخراج أحمد بدرخان، و«البؤساء» (1944) للمخرج كمال سليم، وبطولة عباس فارس وليلى فوزي وسراج منير وفاخر فاخر، و«ليلى بنت الفقراء» (1946) إخراج وبطولة أنور وجدي وليلى مراد وماري منيب وسليمان نجيب. بدأت رحلة شيخ الملحنين بمولده عام 1896، وساهمت نشأته في تكوينه الفني منذ طفولته المبكرة، فوالده كان يعمل في الجامع الأزهر، ويحفظ القرآن، ويهوى سماع التواشيح الدينية ذات المقامات العربية الأصيلة، ووالدته من أصل تركي، مما أكسبه الحِس الموسيقي، وفي ذلك الوقت التحق بأحد الكتاتيب، ثم بالمدرسة الابتدائية، ثم تابع دراسته في الأزهر الشريف، فتلقّى العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية وأجاد حفظ وتلاوة القرآن الكريم. ومن هنا لُقِب بـ «الشيخ زكريا». وذاع صيته بين زملائه قارئًا ومنشدًا ذا صوت شجيّ، ويثير الإعجاب في منتديات القراءة والتلاوة بصوته وأدائه الرائع.

ودرس زكريا الموسيقى على يد الشيخ درويش الحريري؛ الذي ألحقه ببطانة إمام المنشدين الشيخ علي محمود، كما أخذ الموسيقى عن الشيخ المسلوب وإبراهيم القباني وغيرهما. وبدأ رحلته كملحن بعد أن اكتملت لديه معرفة المقامات الموسيقية، وقدَّمه الشيخ علي محمود والشيخ درويش الحريري إلى إحدى شركات الأسطوانات. الهواية المزعجة

وأراد الشيخ أحمد حسن لابنه الاتجاه نحو المشيخة، بينما كان زكريا يتتبع غناء كبار المنشدين والمطربين، وتأثر بألحان عبده الحامولي والشيخ سلامة حجازي، وكان يذهب إلى أماكن وجودهم وحفلاتهم ويحفظ ألحان هؤلاء بسرعة عجيبة، وأصبح يشتري كتب الأغاني والموشحات والموسيقى.

هواية زكريا أزعجت والده كثيرًا، فأخفى الابن كتب الأغاني وسط الكتب العلمية، لكن سرعان ما اكتشف أبوه أمره وعنّفه بشدة، وكان شديد القسوة معه، مما أخاف الشاب اليافع، وجعله يترك منزل أبيه، ولم يكن يعرف إلى أين يذهب، وضاقت به الدنيا.

وبعد أيام توسّط بعض المعارف بينهما، فعاد زكريا إلى منزل أبيه، وبدأ الأب الذي استبد به القلق على مستقبل ابنه ومصيره يحاول إسداء النصح له، وحدّثه بأن الفن لا يطعم ولا يفيد، وأن أساطين الطرب وأساتذة التلحين عبده الحامولي ومحمد عثمان ومحمد سالم، ماتوا جميعًا فقراء.