كانت بغداد العباسية تتكوَّن من المضريين واليمنيين والمغاربة الأتراك والفُرس والنصارى واليهود، وأقليات أخرى، وهذا الخليط كانت له انعكاسات أدى بعضها إلى سلبيات تحمل عادات ومظاهر سلوكية وافدة لا يتسع المجال هنا للإتيان على ذكر تفاصيلها، لكن كُتّاب الزمن العباسي، كأبي حيان التوحيدي في «المقابسات» و«الرسالة البغدادية»، وغيره من الأدباء، قد أرّخوا للكثير منها.
لكن شعراء عصر بني العباس كانوا الأكثر وقوفاً على أحداث زمنهم، وسأتخذ اليوم الشاعر أبا العتاهية نموذجاً لتصوير أحداث زمانه في القليل القليل من أشعاره.
فعندما سجنه الرشيد، قال قصيدة مطلعها:
تعوَّدتُ مسّ الضُّر حتى ألفتهُ
وأحوجني طول العزاء إلى الصبرِ
ووسع صبري بالأذى الأُنس بالأذى
وقد كنت أحياناً يضيق بهِ صدري
وصيَّرني يأسي من الناس راجياً
لسرعة لطف الله من حيث لا أدري
ويصور أبوالعتاهية الذين يثرثرون:
يخوض أناس في الكلام ليوجزوا
ولَلصَّمتُ في بعض الأحايين أوجزُ
إذا كنت عن أن تُحسن الصمت عاجزاً
فأنت عن الإبلاغ في القولِ أعجزُ
ويتوجه بأشعارهِ إلى شرائح اجتماعية كانت أفعالها السلبية هي الأكثر نشاطاً في المجتمع، فيضرب المثل بنفسه:
أطعت مطامعي فاستعبدتني
ولو أني قنعت لكنت حراً
ولا يكتفي بهذا:
قنوع المرء يحمي عرضهُ
ما القرير العين إلّا من قنع
ويسخر من الإنسان المغرور، ويُذكرهُ بأصله الطيني:
كيف تلهو وأنت من حماءِ الطينِ
وتمشي وأنت ذو إعجابِ؟
فخَفِ الله واترك الزهو واذكُر
موقف الخاطئين يوم الحسابِ
ويقول:
أشد الجهاد جهاد الهوى
وما كرم المرء إلا التُّقى
وله أيضاً:
خالف هواك إذا دعاك لريبةٍ
فلرُب خيرٍ في مخالفة الهوى
ويحفلُ ديوان أبي العتاهية بالموضوعات الاجتماعية التي تسلِّط الضوء على عصره، فهو يخاطب البعض بالقول:
من كان لا يُشبه أفعاله
أقواله فصمتهُ أجملُ
ويضيف:
والقول أبلغهُ ما كان أصدقه
والصدق في موقفٍ مُستسهلٍ عالِ
وأختتم المقال بهذه الأبيات:
ونيات أهل الصدق بيضٌ نقية
وألسن أهل الصدق لا تتلجلجُ
لا تكذبنّ فإنني
لك ناصحٌ، لا تكذبنّه
وانظر لنفسك ما استطعـْ
تَ، فإنها نارٌ وجنّة
إذا اعتصم المخلوق من فتن الهوى
بخالقهِ نجّاهُ منهن خالقه
***
أعلم أننا لسنا في زمن قراءة دواوين شعر القدماء، لكن صدّقني: إنك إذا جلست إلى ديوان أحد فحول الشعراء العرب، فستكتشف الكثير من عوالم الجمال، واللغة، والتاريخ، والأصالة.