في الثمانينيات من القرن الماضي، وحتى تقاعدي، كُنت مسؤولاً عن كل عمليات الغاز في شركة نفط الكويت، وكُنت المسؤول المباشر عن عمليات التنسيق والتوزيع لحصص مُستهلكي الغاز في الكويت، من خلال شبكات هائلة ومعقدة من الأنابيب والمشاعب والعدادات.

كانت الكويت، ولا تزال، بحاجة ماسَّة للغاز كلقيم أساسي لمحطات الكهرباء والماء تحديداً، لافتقارها لغاز حُر كافٍ منتج من آبار غازية مستقلة، وهو وضع مزمن، نتيجة الاستهلاك الجائر للطاقة في الكويت، وللفشل في الاستيراد المباشر للغاز القطري، بسبب أمور خارجة عن إرادتنا.

Ad

لهذا، فقد اضطررنا وقتها، أي في منتصف الثمانينيات، إلى الاتفاق مع العراق على استيراد كميات متفق عليها من الغاز الغني والغاز المسال من حقوله الجنوبية الأقرب للكويت. كان ذلك خلال الحرب العبثية العراقية - الإيرانية. وفعلاً تم تنفيذ وتشغيل كل المنشآت اللازمة لذلك المشروع الحيوي والمفيد لكلا الجانبين، والذي اعتُبر وقتها نموذجاً ناجحاً للتكامل المصلحي والمفيد بين الدول العربية.

تم افتتاح المشروع في أواخر الثمانينيات، وبدأت الكميات المتفق عليها تتدفق إلى الكويت بسلاسة، ومن دون أي منغصات تُذكر، حتى أتى تاريخ 2/ 8/ 1990، يوم الخميس الأسود، يوم الغزو العراقي الغاشم للكويت. كُنا وقتها نستورد من العراق حوالي 250 مليون قدم مكعبة قياسية من الغاز، وحوالي 25 ألف برميل من الغاز المسال.

اليوم، وبعد مرور ثلاثة عقود ونصف العقد على ذلك اليوم الكارثي، تقدَّم العالم إلى حالٍ أفضل، إلا العراق، فقد أُعلن أخيراً وقف تصدير الغاز الإيراني له، والله عجيبة! فقد تحوَّل العراق من مصدِّر للغاز وملحقاته إلى مستوردٍ من جارته إيران، رغم رفع إنتاجه النفطي إلى حوالي 4.5 ملايين برميل يومياً، والمقدَّر له أن يصل إلى 6 ملايين، كيف حصل هذا؟ إنه رقم يفوق ما كان يُنتج قبل الغزو بكثير، مما يفترض منطقياً أن يزيد معه إنتاج غازه المصاحب إلى كميات أكبر بكثير عما سبق، هذا بخلاف الغاز الحُر المنتج من حقول أخرى، وهي كميات مهولة كافية لتصدير كميات منها، لا بُد أنها الآن تُهدر حرقاً.

إنه فعلاً لأمر عجيب، فكيف تحوَّل العراق إلى هذا الوضع المزري؟ كيف تحوَّل هذا البلد الغني نفطياً من مصدّرٍ للغاز إلى مستجدٍ له لتشغيل منشآته؟ بل كيف تحوَّل هذا البلد الغني علمياً ومائياً وزراعياً وصناعياً إلى بلد تُخَيِّم عليه الخزعبلات، وتتناهش خيراته الميليشيات الطائفية الأجنبية، بحجة حمايته من السقوط، السقوط على يد مَنْ؟

فسبحان مغيِّر الأحوال، العراق الذي كان في يوم ما أغنى دول «أوبك»، وأقواها عسكرياً ومالياً تحوَّل على يد طغاة ومتهورين إلى بلدٍ مُحتل، تُدار أموره من الخارج. العراق الذي اتهم الكويت زوراً بسرقة نفطه، ها هو قد سُرق منه حقل «الفكة». العراق الذي كان غنياً بمياهه، ها هي جارته الحامية لنظامه تقطع عنه مياه أكثر من 45 رافداً وجدولاً ونهراً كانت تغذي أنهاره.

أمور كثيرة عجيبة حصلت للعراق، العالم والعراقيون يعرفون المتسبِّب فيها.