لم يشهد التاريخ مثل نبي الرحمة في سعيه لهداية الناس والحوار مع الآخرين وعفوه عمن آذاه وعن أعدائه الذين حاربوه، فهو القائل «إنما بعثت رحمة» (رواه مسلم)، والأمثلة كثيرة، منها عندما يئس الطفيل مبعوث النبي من هداية دوس فطلب من النبي أن يدعو عليهم، فاستقبل النبي القِبلة ورفع يديه فأيقن الناس بهلاك دوس، ولكن النبي قال: «اللهم اهدِ دوساً وأتِ بهم» (متفق عليه). وفي الطائف قابله أهلها بالجحود والاستهزاء والحجارة، فأرسل الله إليه ملك الجبال يسأله إن شاء أن يطبق عليهم الأخشبين إلا أنه قال: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له» (متفق عليه)، وفي فتح مكة يخرج النبي إلى المنهزمين الذين اعتدوا وقتلوا أصحابه في أُحد فيقول لهم: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم»، فانطلقوا وكأنهم بُعثوا من القبور.
ولكن لم يستفد كثير من الساسة والدعاة والجماعات السياسية عندنا من هديه، صلى الله عليه وسلم، فقد مرت على الوطن فترات وكأن حرباً شعواء تدور رحاها بين بعض النواب والوزراء، وكراهية تطل برأسها من تصريحات وتغريدات بين الخصوم السياسيين وحتى بين الإسلاميين، أفسدت العمل البرلماني وأخرجته عن أدبه وجماله إلى صراعات ومزايدات وولاءات صغيرة ومنفّرة لا تقيم وزناً للرأي والرأي الآخر.
وفي رمضان تلقيت دعوات لغبقات من زملاء سابقين ومنافسين من جماعات سياسية مختلفة وسررت بإجابتها رغم بعض الخلافات السابقة، لأننا شركاء في الوطن ويجب أن نسعى للحوار والتوافق وأن نكون دعاة لا قضاة، ويجب أن نتأمل كيف انهارت دول ووقعت في أزمات خطيرة لأن أبناءها فقدوا الحوار فيما بينهم.
وبالعودة إلى العفو، أتذكر أن الأخ فهيد الهيلم طلب مني قبل سنوات التوسط للعفو عن بعض الشباب الذين تورطوا في مظاهرات غير مشروعة، خصوصاً أنهم شباب يافعون وسيضيع مستقبلهم، فوافقت على أن ينضم معي الأخ عبدالله الرومي وعلى أن يقدموا كتاباً لسمو الأمير طلباً للعفو، وبالفعل تم الإعلان عن تحديد يوم للتوقيع على طلب العفو ولكن بعض رموز المعارضة أقاموا ندوة شنوا فيها هجوماً علينا واتهموا مبادرتنا بأنها مؤامرة لإفشال المعارضة، ولكن مبادرتنا استمرت وانضم إلينا الأخ بدر الشبيب، وذهبنا بالكتاب إلى صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، فتكرم بالعفو عن الموقعين، ومرت سنوات وقام كثير من النواب بعدها بأساليب عديدة لطلب العفو مما يعيدنا من جديد إلى أهمية الدعوة إلى الحوار بين مختلف التوجهات والرموز السياسية على ضوء سيرة النبي في العفو والحوار مع الآخر. قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».