في خواطر الشهر الفضيل في مقال الأحد الماضي تناولت بدء نزول الوحي على الرسول (ﷺ) يوم السابع عشر من شهر رمضان، لتقوم أول ثورة إسلامية، تدعو إلى عبادة الله وحده وتحرير الإنسان من عبادة الأصنام، ثورة على الرق، وهي تدعو إلى العدل والحرية والمساواة، بمفهومها الإلهي، وهو الإخاء الإنساني، وليلغي الإسلام الرق من جذوره ومن داخله بالاعتراف بحقوق متساوية للجميع أسيادا وأرقاء، وأستعيد من الذاكرة في قراءاتي عن الثورات أن آخر ثورة للعبيد هي ثورة الأرقاء ضد الأسياد في الإمبراطورية الرومانية القديمة، قبل التاريخ الميلادي، حيث قام سبارتاكوس وسبعون مصارعا بثورة الأرقاء، في سنة 73 قبل الميلاد، وقد هربوا من مدرسة للتدريب على القتال حتى الموت.
حيث هزم جيش الثوار، والفلاحون الأرقاء، الذين كانوا ينضمون إلى جيش الثوار، من القرى التي اجتازها، هزم جيشين رومانيين في سنتين متتاليتين، إلا أنه في السنة الثالثة ق.م، تمكن جيش روماني ثالث، حشد له الرومان حشدا كبيرا، من القضاء على هذه الثورة، وسحقها وتعليق العبيد على المشانق في الخلاء الذين لم يعرف أسيادهم، لتسليمهم لهم، لتأتي الثورة الإسلامية لإلغاء الرق بعد سبعة قرون، عندما اعترف الإسلام بحقوق متساوية لكل من الأسياد والأرقاء فحررهم من داخلهم.
مسارات الثورة الإسلامية
وفي سياق الحديث عن مسارات الثورة الإسلامية، ونشر الدعوة الإسلامية، وقد نزل الدين الإسلامي ثورة بيضاء تدعو إلى توحيد الله وعبادته وحده، هدى للعالمين، وقد صاحب هذه الثورة وضيق عليها الخناق إيذاء الكفار للنبي محمد (ﷺ) ولمن آمن بدعوته، لمنعهم من نشر الدعوة إلى الدين الجديد، حتى هاجر منهم من هاجر إلى الحبشة، ثم إلى يثرب (المدينة المنورة)، وهجرة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة، ونشأة أول دولة في الإسلام.
وفي سياق نشر الإسلام كانت هناك مناوشات لهذه الثورة تنطلق من المدينة، يقوم بها المهاجرون على قوافل التجارة القادمة من مكة إلى الشام وعند عودتها.
وقد جرى بعض المستشرقين والمؤرخين على اعتبارها من غارات القبائل على بعضها البعض في الجاهلية، وأن الغاية منها حسب زعمهم نهب الأموال حتى قيل في هذه الغارات شعر (وإذا لم نجد إلا أخانا... أغرنا على بكر أخينا) (من كتاب شرح العقيدة الطحاوية - سفر الحوالي ص 1574).
وهو ما نفاه الفقيه والعالم الراحل الدكتور/ محمد حسين هيكل رئيس مجلس الشيوخ الأسبق وأحد كبار رجال القانون في كتابه حياة محمد، وقد شارك في بعض هذه السرايا الرسول (ﷺ)، حيث أشار الدكتور هيكل إلى رأي هؤلاء المؤرخين آخذا على رأيهم بعض المآخذ، حول الغرض من السرايا في هذا الكتاب، مقررا بأن الإنسان يقف عندها موقف التردد والتفكير في القول بأن هذه السرايا كانت تقصد حرب قريش وغزو قوافلها، لأن كل سرية لم يتعد عددها ثلاثين رجلاً (سرية حمزة بن عبدالمطلب) أو ستين (سرية عبيدة) أو عشرين (سرية سعد بن أبي وقاص)، وكان المعهود إليهم بحماية قوافل قريش أضعاف هذه الأعداد عادة.
فضلاً عن أواصر القربى وروابط الدم أو المصاهرة التي كانت تربط المهاجرين بأهل مكة أصحاب هذه القوافل.
كما نفى الدكتور هيكل أن يكون القصد من هذه السرايا القتال بالفعل بما قد يعرض مكة والمدينة لحرب أهلية بينهما، اتقاها الرسول والمسلمون في مكة ثلاث عشرة سنة متتابعة من يوم بعث محمد إلى يوم هجرته إلى المدينة.
كما قرر أن سياسة الرسول يومئذ كانت تقوم على قواعد التفاهم والاتفاق مع مختلف القبائل لكفالة حرية الدعوة الدينية من ناحية، وكفالة حسن المعاملة والجوار والتعايش مع من يخالفون المسلمين في العقيدة من ناحية أخرى.
ولهذا كان رأي الدكتور هيكل أن الغرض من هذه السرايا هو إفهام قريش أن مصلحتهم تقتضي تفاهمهم مع المسلمين من أهلهم الذين اضطروا إلى الهجرة من مكة بسبب ما عانوه من اضطهاد قريش لهم، تفهما يقي الطرفين شرور العداوة والبغضاء ويكفل للمسلمين حرية الدعوة إلى الدين، ولتجارة مكة حمايتها.
ولا نختلف مع الدكتور محمد حسين هيكل فيما قاله جملة وتفصيلا، وهو غني عن التعريف سواء لدراسته للقانون والمنطق والفلسفة واتصاله بالثقافة القديمة والحديثة.
وقد وصفه الأستاذ الأكبر فضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي في تعريفه كتاب حياة محمد، للدكتور هيكل، بنضوج العقل وكمال العلم واتساع الاطلاع وامتداد الأفق، وأنه جعل العقل حكما والبرهان أساسا للعلم.
إلا أن ما نقف عنده من رأي للدكتور حسين هيكل، بعض ما قاله في الرد على رأي المؤرخين سالف الذكر، قوله «أفلا يقوم هذا دليلا على أن المهاجرين فكروا وفكر محمد على رأسهم في الانتقام من قريش لأنفسهم، وهم الذين بدأوا بالعداوة والحرب؟».
وهو تساؤل مشروع لا غبار أو تثريب عليه، إلا أنه في سياق ما أبداه من رأي وأسباب يقوم عليها رأيه، فإننا لم نستشف من هذا كله إجابة عن تساؤله، بأن هذه السرايا كانت انتقاما أم لا، بل على النقيض من ذلك، وفي موضع آخر من كتابه حياة محمد ما ينفي أن يكون ذلك انتقاما، حيث وصف به الرسول (ﷺ) بأن نفسه «سمت كل سمو وارتفعت فوق الحقد والانتقام، وأنكرت كل عاطفة دنيا وبلغت من النبل فوق ما يبلغ الإنسان!».
وفي سمو النفس الذي لا يبلغه أحد، قرر النبي بعد دخوله مكة فاتحا ومنتصرا العفو العام الذي قرره في قوله، بعد هذا النصر، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
ويضيف الكاتب الكبير وقد عرف محمد من قريش أنهم ائتمروا به ليقتلوه، وعذبوه وأصحابه من قبل ذلك، ومن قاتلوه في بدر وفي أحد، ومن حاصروه في غزوة الخندق، ومن ألبوا عليه العرب جميعاً، ومن لو استطاعوا قتله وتمزيقه إربا لما توانوا في ذلك لحظة! هؤلاء وقريش في قبضة محمد وتحت قدميه بعد فتح مكة، وأمره نافذ في رقابهم، وحياتهم جميعا معلقة بين شفتيه، وفي سلطانه هذه الألوف المدججة بالسلاح تستطيع أن تبيد مكة وأهلها في رجع البصر! لكن محمدا! لكن النبي! لكن رسول الله ليس بالرجل الذي يعرف العداوة أو يريد بها أن تقوم بين الناس، وليس هو بالجبار ولا بالمتكبر، لقد أمكنه الله من عدوه، فقدر فعفا، فضرب بذلك للعالم كله وللبشرية جمعاء مثلاً في البر والوفاء بالعهد.
(حياة محمد - د. محمد حسين هيكل - الطبعة الثالثة دار المعارف ص 426-427)