نحيا اليوم في عالم يضج بالأحداث المؤلمة، تحاصرنا فيه صور الحروب والدمار، وتتردد في أسماعنا صرخات الأطفال المشردين ونداءات الثكالى، بينما تستفزنا مواقف تبرر هذه المجزرة أو تدافع عن أولئك القتلة!

اللافت في هذا السياق هو التباين الواضح في تفاعل البشر مع هذه المآسي، فبينما يعبّر البعض عن انفعالاتهم بعاطفة جياشة، سواء بالغضب العارم أو الحزن العميق، يفضل آخرون التظاهر بعدم الاكتراث، متجنبين الغوص في دوامة التأثر. والأرجح أن العقل الباطن لدى الغالبية يدفعهم نحو الاعتياد على الألم، والتكيف مع المشاهد المروعة التي أصبحت جزءاً من الواقع اليومي.

Ad

من التعود على الألم إلى التعلّق بالأمل

من الناحية العلمية تثبت الدراسات أن تكرار تعرضنا لمشاهد مأساوية أو لمواقف صعبة يوجد لدينا حالة من التبلّد العاطفي، حيث يبدأ الدماغ في تطوير آليات دفاعية للحد من تأثير هذه الصور على مشاعرنا.

فبشكل تدريجي نتخطّى الشعور الأولي بالصدمة، ويصبح الألم جزءاً من الروتين اليومي الذي نتقبله دون تأثر كبير، ويعمل عقلنا الباطني على تحويل وإعادة تشكيل الشعور بالأسى بطريقة تمكننا من الاستمرار في الحياة بشكل متوازن، دون الغرق في دوامة مفزعة من الألم.

في المقابل يجد البعض في التمسك بالأمل وسيلة لموازنة تأثير المناظر المروّعة، حيث يصبح التفاؤل أداة أساسية للحفاظ على التوازن النفسي وتخفيف حدة التوتر والقلق، وبناء القوة الداخلية وتعزيز القدرة على مواجهة التحديات دون الشعور باليأس، وذلك مهما كانت الحقائق مفزعة والواقع مريراً.

لا يمكن اتهام من يتمتّع بهذه الخصال الإيجابية والتفاؤلية بأنه متجاهل للأحداث أو غير مبال بمآسيها، بل يجب التركيز على مقدرته اللافتة على توجيه مشاعره نحو فتح النوافذ للضوء والمراهنة على إشراقة الغد، فالأمل بأن يحمل المستقبل ظروفاً أفضل يصبح قوة دافعة وليس نوعاً من أنواع الإنكار، كما هو ليس مجرد محاولة للالتفاف على الألم بل هو مقدرة تحويل الصدمة إلى حافز للإقدام.

التسليم الإيماني

يشكل الإيمان العميق بقضاء الله وقدره وسيلة لتهدئة النفوس أمام الويلات وظروفها القاسية، اذ يُسهم هذا الإيمان في تعزيز تقبل الإنسان للمآسي باعتبارها اختباراً إلهياً أو حكمة يجهل كينونتها وأبعادها، مما يخفف من وقع الألم الداخلي ويقلل من حالة الصدمة.

هذا التسليم الإيماني يسمح للبعض بالنظر إلى المشاهد المؤلمة بنوع من السكينة الروحانية المنطلقة من واجب مقاومة الاستسلام لمشاعر الحزن واليأس، وتعزية النفس بفكرة الثواب المجزي على الصبر واللجوء لمقدّر الأقدار والدعاء له بالقوة والثبات.

التحكم العاطفي

يميل بعض الأشخاص من ذوي الشخصية العقلانية إلى تفسير الأحداث المؤلمة التي يرونها من منطلق منطقي، حيث يغوصون وينشغلون بالبحث والتحليل عن أسباب الحروب والعنف والدمار ومقاربة الأمور والأحداث من زوايا سياسية أو اجتماعية مختلفة، أقرب الى الواقعية منها الى الانجراف العاطفي.

هذا النوع من التفكير لا يعني افتقار أصحابه لفضيلة التعاطف، بل هو طريقة لاإرادية تعتمد عليها أدمغتهم لتجنب التأثر العاطفي السلبي، وهذا ما يساعدهم على التعامل مع الألم من خلال فهم الأحداث والتعامل معها بطريقة عقلانية والنظر الى المستقبل بتفاؤلية تفرضها الحلول العملية التي توصّل اليها تفكيرهم.

المقاربة الثقافية والفلسفية

يختلف تأثير المشاهد المؤلمة على الأفراد بحسب التنشئة الثقافية والاجتماعية التي تربّوا عليها، فبعض الثقافات ترى في التعبير العلني عن الألم ضعفاً، وتحث على التماسك والهدوء في مواجهة المصاعب، بينما ترى ثقافات أخرى أن الحزن والانفعال العلني هما دليل على التعاطف الإنساني والرقة الوجدانية.

من جانب آخر، يعتمد البعض لتجّنب الألم على نظرة فلسفية تعتبره جزءاً لا يتجزأ من تجربة الحياة، وترى أن المعاناة تمنحنا فهماً أعمق للوجود الإنساني، فالأزمات، رغم قسوتها، تشكل جزءاً من دورة الحياة التي يمر بها البشر، والأمل في هذا السياق يصبح انعكاساً للوعي بهذه الحقائق، فالألم وفق هذه الرؤية ليس النهاية، بل مرحلة تُمكن من بناء تجارب أقوى وأكثر نضجاً، حيث يستمد المرء من المآسي طاقة لمواصلة الحياة بطريقة واعية وبإيمان متجدد بالقدرة على تجاوز الأوقات الصعبة.

***

تبقى قدرة الإنسان على التأرجح بين الألم والأمل انعكاساً لقوة داخلية تسمح له بتجاوز أقسى اللحظات دون فقدان التوازن، ففي عالم يضّج بالويلات ويعج بالمآسي، يظهر أن الأمل ليس مجرد شعور عابر، بل هو نهج حياة يُعيد ترتيب الأولويات ويمنحنا القدرة على إيجاد مساحات من النور وسط العتمة.

وسواء كان الأمل مستنداً إلى إيمان عميق، أو فلسفة وجودية، أو تفاؤل بالمستقبل، فإنه يبقى الشعلة التي تحافظ على وهج الإنسانية، وتذكرنا دائماً بأن الغد يحمل بين طياته فرصاً جديدة للتغيير والتعافي.

* كاتب ومستشار قانوني