الغزو الغاشم وجرح الأمة العربية

تعرّضت الكويت لغزو غاشم من قبل النظام العراقي، في واقعة صدمت العالم وأحدثت شرخاً غائراً في جسد الأمة العربية. غرور القوة وصلف صدام قادا إلى هزيمة منكرة، لم تكن جرحاً نازفاً للكويت وحدها، بل بداية لتصدُّع حلم الوفاق والارتقاء العربي الذي ما زلنا نلمس آثاره حتى اليوم. وفي خضمّ هذا الألم، أظهرت القيادة والشعب الكويتي ملحمة من الصمود، وحشدوا الرأي العام العالمي لدحر العدوان واستعادة الحق المغتصب.

Ad

لقد كنت شاهداً على هذه الأحداث، حيث عشت تفاصيلها منذ فجر الثاني من أغسطس في المستشفى العسكري، ولم أنقطع عن العمل طوال فترة الغزو الى التحرير، كنت مع رفاقي في اللجنة الصحية السريّة، نحاول تنظيم الخدمات الطبية، رغم كل المخاطر والتحديات.

لم يكن الغزو مجرد احتلال للأرض، بل كان حملة همجية اتسمت بوحشية غير مسبوقة، فقد شهدت الكويت إعدامات للناشطين أمام أسرهم، واعتقالات عشوائية، وتعذيباً ممنهجاً في السجون العراقية. لم يسلم شيء من السرقة، من حضانات الأطفال إلى الأجهزة الطبية الحديثة، بل امتدت يد النهب إلى كليات الطب والمرافق الحيوية كافة. وسط هذا الدمار، برز قطاع الرعاية الصحية في الكويت كخطّ دفاع إنساني لا يقل أهمية عن خطوط المواجهة العسكرية.

مرحلة الصدمة الأولى... صمود الأطباء وسط الفوضى (أغسطس 1990)

مع بداية الغزو، وجدت نفسي في المستشفى العسكري، حيث كنت رئيس وحدة الطوارئ والجراحة، كانت الساعات الأولى مزيجاً من الذهول والصدمة العنيفة، مع تدفّق أعداد كبيرة من الجرحى، كويتيين وعراقيين على حد سواء. كان المشهد يفوق التصور، جنود عراقيون مدججون بالسلاح يقتحمون الأجنحة بالمستشفيات، حتى أقسام التوليد لم تسلم منهم، إذ أفرغوها استعداداً لاستقبال مصابيهم، فتحولت المستشفيات إلى ثكنات عسكرية، تطوّقها المدرعات ونقاط التفتيش التي تقطع الطرق، مما أعاق وصول الطواقم الطبية، وأدى إلى تفاقم الأزمة الصحية، وامتلأت مشارح المستشفيات بالجثث، حتى تم نقل بعضها إلى صالة التزلج، مما عكس بشاعة المشهد وحجم الكارثة الإنسانية.

لم يكن أمامنا خيار سوى العمل، رغم التهديدات. كان الأطباء الكويتيون ومديرو المستشفيات يتنقلون في أروقة المستشفيات وسط أجواء مريبة، يتعاملون مع الرعب يومياً. كان ضباط الارتباط العراقيون ينتشرون في كل مستشفى، يفرضون سيطرتهم بالعنف والترهيب. ومع كل هذا، ظل هدفنا الأول الحفاظ على الخدمات الطبية للسكان، وهو تحدٍّ محفوف بالمخاطر، حيث كان يكفي أن تتستر على أحد أفراد المقاومة حتى تواجه مصيراً محتوماً بالإعدام.

دور المتطوعين... ملحمة وطنية صامتة

لا يمكن الحديث عن تلك الأيام دون الإشادة بالمتطوعين الذين شكّلوا ظاهرة وطنية استثنائية. من الرجال والنساء إلى الشباب، هبّ الجميع للمساعدة في المستشفيات، ناقلين المرضى، منظفين المرافق، وموّفرين الدعم اللوجستي في ظل انسحاب العمالة الأجنبية خوفاً من بطش الجنود العراقيين. لكن سرعان ما صدر أمر من الإدارة العراقية بمنعهم من دخول المستشفيات، لخنق الروح الوطنية التي كانوا يمثّلونها.

اللجنة الصحية السرية... قبضة الأمل وسط الظلام

مع اشتداد الأزمة، اجتمع عدد من مديري المستشفيات والمسؤولين الصحيين في سرية تامة يوم 15 أغسطس 1990، وأُسّست اللجنة الصحية السرية في منزل د. سليمان العلي، وكانت بمنزلة القلب النابض للخدمات الصحية في الكويت أثناء الاحتلال. كان دوري في البداية، بالتعاون مع د. توحيد، الاتصال مع الأطباء في المناطق المختلفة، وتنسيق إنشاء عيادات سريّة داخل المنازل لخدمة المقاومة والمواطنين، ليتجنبوا الذهاب إلى المستشفيات المطوقة بالجنود العراقيين.

كانت الاجتماعات الأسبوعية بمنزلة طوق نجاة، حيث كنّا نجمع المعلومات، ونتبادل الآراء، ونضع الخطط، ونستثمر كل الإمكانات المتاحة، سواء كان ذلك أدوية، أو أجهزة، أو ديزل، أو أغذية. ورغم المخاطر المحدقة، استطعنا نشر مستوصفات سرية في معظم مناطق الكويت حتى أواخر سبتمبر، عندما بدأت المداهمات العراقية الشرسة. لم يكن الخوف من فقدان المعدات فقط، بل من تعرُّض الأهالي لعواقب مميتة في حال اكتشاف هذه العيادات.

كما كنّا على اتصال مستمر بالحكومة الكويتية الشرعية في الطائف، حيث كنا نرسل التقارير بشكل منتظم بالبداية مع المسافرين، ثم مع المقاومة عبر الفاكس، ونبلّغهم عن الأوضاع الصحية في البلاد. كنّا موظفين رسميين لدى العراق، وتصل لنا جميع التعميمات الإدارية من بغداد.

تكونت اللجنة من العديد من المديرين، واستمر في الحضور حتى 13 يناير كل من د. سليمان العلي، د. يوسف النصف، د. عهد الغانم، د. عادل العصفور، د. عادل التوحيد وشخصي. كما كان هناك مرابطون يوميًا وعلى تواصل، منهم د. محمد نخيلان (يرحمه الله) في المستودعات الطبية، د. محمد الشرهان في الطوارئ، د. عباس رمضان، د. وليد البصيري، وعبدالعزيز العنزي في مستشفياتهم.

المرحلة الثانية: السيطرة والتمكين العراقي (سبتمبر - نوفمبر 1990)

مع بداية سبتمبر، بدأ الاحتلال مرحلة إعادة هيكلة وزارة الصحة الكويتية، محولاً إياها إلى ما يُسمّى «دائرة صحة الكويت»، بعد أن أطلق على الكويت لقب «المحافظة التاسعة عشرة». كانت السيطرة مطلقة، إذ عُيّن مديرون عراقيون في المناصب الرئيسية، معظمهم من البعثيين المتطرفين الذين لم يترددوا في سرقة كل ما يمكن نقله إلى العراق، من أجهزة طبية متطورة إلى سيارات الإسعاف الحديثة، حتى أغذية المرضى لم تسلم من أيديهم.

وفي السادس عشر من أكتوبر، وفي خطوة غريبة، أعيد تعيين بعض المديرين الكويتيين في مناصبهم، وتم تكليفي بإدارة مستشفى الصباح، الذي أُعيد تسميته زوراً بـ «مستشفى صدام»، ورغم وجود موظفين عراقيين في جميع الأقسام، بمن فيهم الأطباء والصيادلة، فقد استطعنا، بهدوء، تغيير قيادات المستشفى إلى كويتيين بالكامل دون إثارة الشبهات.

المواقف الحرجة... بين المطرقة والسندان

كان التعامل اليومي مع العراقيين أشبه بالمشي فوق جمر مشتعل، من ضباط الارتباط إلى عناصر الاستخبارات، كان الشك والريبة سمتهم الدائمة. أحد أصعب المواقف التي مررت بها عندما داهمت القوات العراقية منزلي بحثاً عن وثائق المقاومة. وبفضل الله، غابت أعينهم عن الأوراق المخفية في دولاب غرفة النوم التي لم تسلم من تفتيشها بدقة، وإلا لكان المصير الإعدام بلا محاكمة.

النهاية: الاستعداد للمواجهة والبقاء على قيد الحياة

ومع استمرار الاحتلال، بات واضحاً أن الصمود لم يكن مجرد قرار، بل كان معركة يومية. كان الجميع تحت المراقبة، والموارد تتضاءل، لكن الإرادة لم تُهزم. داخل المستشفيات، وداخل العيادات السرية، وفي المنازل التي تحولت إلى مراكز إسعاف طارئة، ظل الأطباء والمتطوعون يعملون بصمت، متحدّين الخوف، ليبقوا شموعاً مضيئة وسط ظلام الاحتلال.

(يتبع غداً)

* وزير الصحة الأسبق