بكثير من الإثارة والترقب وقليل من المفاجآت، حقق المحافظون في حزب «الاتحاد الديموقراطي المسيحي» (يمين الوسط) انتصاراً واضحاً في انتخابات ألمانية تشريعية، اكتسبت أهمية مضاعفة، لسببين متعلقين بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، الأول: دخول ترامب وشخصيات رفيعة في إدارته على خط دعم حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتشدد المؤيد لموسكو، والثاني: انطلاق مفاوضات أميركية - روسية حول إنهاء أزمة أوكرانيا، وسط تجاهل أميركي شبه تام لكييف وأوروبا ومصالحهما.
وكما أظهرت الاستطلاعات على مدى أسابيع طويلة، فقد حقق «الاتحاد الديموقراطي المسيحي» (CDU) وحليفه البافاري حزب «الاتحاد الاجتماعي المسيحي» (CSU) بنسبة 29% من الأصوات، الأمر الذي يعطيهما ما يصل إلى 211 مقعداً في البوندستاغ، من أصل 630 مقعدا، وهو ما يعني الحاجة إلى تشكيل ائتلاف يضمن الغالبية.
ووسط معدل إقبال هو الأعلى تاريخيا، حيث بلغ 3.80%، حل «البديل من أجل ألمانيا» (AFD) في المرتبة الثانية، بنحو 20% من الأصوات (142 مقعداً) تشكل ضعف النسبة التي حصدها قبل أربع سنوات، في نتيجة تاريخية للحزب اليميني المتطرف الذي تأسس عام 2013، لكن النتائج أظهرت أن دعم ترامب وفريقه للمتشددين لم يؤد الى أي تغيير في النتائج التي كانت تتوقعها استطلاعات الرأي حتى قبل فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية.
وتعرض الحزب الاشتراكي الديموقراطي (SPD)، بزعامة المستشار اولاف شولتس، لهزيمة ساحقة هي الأولى بهذا المستوى منذ الحرب العالمية الثانية، وهبط إلى المركز الثالث بحصوله على 4.16% من الأصوات، أي ما يعادل 116 مقعداً نيابياً، وكان الخاسر الآخر بهذه الانتخابات «حزب الخضر»، والذي حصل على 5.13% من الأصوات (98 مقعداً).
أما المفاجأة الوحيدة فكانت عودة حزب اليسار (Die Linke)، الذي خاض الانتخابات ببرنامج مؤيد للهجرة، إلى التمثيل النيابي بعد انشقاقه في الانتخابات الماضية، ونال الحزب 9% من الأصوات على المستوى الوطني، وحقق فوزا مفاجئا في انتخابات العاصمة الألمانية برلين، حيث حصل على 9. 19% من الأصوات، وأظهرت بعض الارقام أن الحزب حصد أصواتا عالية بين الشباب الألمان في معظم الولايات.
شرق ألمانيا في قبضة التشدد
وعززت النتائج ما بات واضحاً في الانتخابات الماضية، وهو هيمنة «حزب البديل» في ولايات تورينغن وبراندنبورغ وسكسونيا وسكسونيا-انهالت وميكلنبورغ-فوربومرن، أي الولايات الخمس التي تشكل شرق ألمانيا، الذي كان يرزح سابقا تحت حكم النظام الشيوعي الموالي لموسكو.
وفي انتخابات البرلمانات الإقليمية، التي جرت في ثلاث ولايات بشرق ألمانيا، العام الماضي، حقق «البديل» مكاسب كبيرة، لكنه لم يصبح الحزب الأقوى إلا في ولاية تورينغن.
واعتبر زعيم المحافظين فريدريش ميرتس، الذي سيصبح المستشار الجديد لألمانيا، أن أوروبا يجب أن تعزز قدراتها الدفاعية، وسط تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وأوروبا بشأن أوكرانيا وتمويل حلف الناتو.
وعنونت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية المحافظة: «تصويت ألماني يعزز وسطيي أوروبا، بينما يسعى ميرتس إلى الاستقلال عن الولايات المتحدة».
وقال ميرتس: «بالنسبة لي، ستكون الأولوية المطلقة هي تعزيز قوة أوروبا في أسرع وقت ممكن، حتى نتمكن، خطوة بخطوة، من تحقيق الاستقلال عن الولايات المتحدة» في المسائل الدفاعية. وأضاف في مناظرة تلفزيونية مع مرشحين آخرين بارزين بعد الانتخابات: «بعد تصريحات دونالد ترامب في الأسبوع الماضي، من الواضح أن الأميركيين... غير مبالين إلى حد كبير بمصير أوروبا».
وأشار إلى انه «لا أوهام لديه على الإطلاق بشأن ما سيأتي من أميركا»، وتابع: «أنا في غاية الفضول لمعرفة ما سيحدث في الفترة بين الآن وموعد انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي في نهاية يونيو»، لكنه شكك فيما «إذا كنا سنظل نتحدث عن حلف الناتو في شكله الحالي أو ما إذا كان علينا إنشاء قوة دفاعية أوروبية مستقلة بسرعة أكبر».
وهنأ رئيس حلف الناتو مارك روته ميرتس، مشدداً على أنه «من الضروري أن تزيد أوروبا إنفاقها الدفاعي وستكون قيادتكم أمرا أساسيا».
من ناحية أخرى، قال ميرتس إنه غير ملتزم حاليا بمناقشات بشأن إرسال وحدات ألمانية للمشاركة في قوة حفظ السلام المقترحة بأوكرانيا، لكنه أكد التزامه بدعم أكبر لكييف. وكشفت تقارير صحافية أن فرنسا وبريطانيا تقترحان إرسال 30 ألف جندي أوروبي إلى أوكرانيا في حال التوصل إلى اتفاق لوقف النار، لكن هذه القوة ستحتاج إلى «شبكة أمان» أميركية، وعبرت موسكو عن رفضها المسبق لهذا الأمر.
وقال نائب رئيس الكتلة البرلمانية للتحالف المسيحي، ينس شبان، إن حزبه مستعد لإجراء محادثات تشكيل ائتلاف حاكم في أقرب وقت ممكن، مضيفا: «هناك حاجة في أوروبا إلى قيادة ألمانية». ومع تعهد ميرتس وجميع الأحزاب السياسية الأخرى بعدم التعاون مع «حزب البديل»، سيكون على ميرتس تشكيل ائتلاف، وقد ألمح إلى أنه يفضل مد اليد إلى الاشتراكيين الديموقراطيين.وهذا التحالف المحتمل، الذي يطلق عليه «الائتلاف الكبير»، بين الحزبين اللذين هيمنا على المشهد السياسي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، هو الخيار المفضل لدى الألمان، بعد مرحلة اضطرابات متواصلة داخل الائتلاف الحكومي الثلاثي بين الاشتراكيين والخضر وليبراليي الحزب الديموقراطي الحر. وقال ميرتس في هذا الصدد إنه يريد تجنب تشكيل ائتلاف ثلاثي.
ترميم القطاع الصناعي
وعبر ميرتس (69 عاما) عن رغبته في تشكيل حكومة «بأسرع وقت»، لتجاوز أزمات ألمانيا، وكان رجل الأعمال خاض الانتخابات دافعا الحزب الى اليمين قليلا في موضوع الهجرة، بعد أن خسرت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل الانتخابات بسبب هذا الملف تحديداً. والأولوية لميرتس هي إنهاء الازمة الاقتصادية التي تعاني منها ألمانيا مع تراجع قدراتها التصنيعية واشتداد المنافسة، «ونتعهد بخفض القيود والضرائب للسماح بترميم القطاع الصناعي الألماني الضخم».
وقال بيتر ليبينغر، رئيس اتحاد الصناعة الألماني أمس الأول الأحد، «إن الاقتصاد الألماني يحتاج بشكل عاجل إلى حكومة مستقرة وفعّالة»، لافتا إلى أن الأمر يتعلق «برفع سريع للعرقلة في عملية اتخاذ القرار بشأن القضايا الأساسية: تقليص البيروقراطية، والاستثمارات العامة، والطاقة، والأمن».