قد يسأل سائل كيف للشعب اللبناني الذي أصبح الراتب الشهري لمعظم موظفيه لا يعادل عشرات الدنانير الكويتية أن يؤمِّن متطلبات الحد الأدنى من العيش الكريم دون أن تظهر عليه علامات العوز ولا طباع الفقير المضطر؟! والجواب بكل دقة ووضوح أن هذا الشعب الذي ألِف المعاناة واعتاد على المآسي خصّه الله عزّ وجلّ بإيجابية التأقلم وفطنة التعامل مع واقع الحال، فهو الذي يقبل على مواجهة الصعاب بسلاح الصبر ويتحدى نفسه قبل الآخرين باجتراح الحلول البديلة، الأمر الذي يرتد عليه سلباً في كثير من الأحيان ببقاء السيئ على ما هو عليه وبقاء السيئين متحكمين بزمام الأمور.

من بين البدائل التي أصبحت من ركائز الاقتصاد اللبناني الهجين، اعتماد معظم الشعب اللبناني في أزماته المالية على تحويلات المغتربين من أبنائه وارتكاز الدولة اللبنانية على مساعدة الأشقاء ومنح الأصدقاء، فلا يكاد بيت من البيوت اللبنانية يخلو من مغترب يضع على رأس أولوياته مساعدة ذويه ومحيطه بما يتيسر له من فائض في الأموال أو الطاقة أو العلاقات، ولا تكاد مرحلة تخلو إلا للبنان حصة فيها من مساعدات إخوانه العرب وأصدقائه الغربيين... وما اشتداد الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة إلا نتيجة مباشرة لتخلي لبنان الرسمي عن محيطه الأخوي وبيئته الحيوية الأمر الذي قوبل بالتفات الجميع إلى بؤرة التناقضات اللبنانية.

Ad

ورغم ما يشهده لبنان من أزمات فادحة وغير مسبوقة، يعبّر بعض زواره عن مفاجأتهم بما يلحظونه من اكتظاظ في بعض المطاعم والمقاهي والأماكن الترفيهية، مما يدعوهم للاستغراب وربما الاستهجان! ورغم أن هذا الأمر لا يحتاج لشرح ولا توضيح لمن يعرفون لبنان وحقيقة شعبه المفطور على قاعدة «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب»، فإن واقع الحال يتطلب بعض التصويب والتدقيق حيث تشير الأرقام والوقائع الى تراجع كبير وملحوظ في حجم السياحة الداخلية والأنشطة الترفيهية المدفوعة، ناهيك عن أنه ليس من الغريب ألاّ تمرّ تداعيات الأزمة على شريحة ميسورة من أي شعب ترى أن من حقها أن تتمتع بما جنته في حياتها أو ورثته دون تعب، أما الغالبية العظمى من الشعب اللبناني فتراه-أينما وجدته- كئيب الوجه، شارد الذهن، حبيس الدمع، انقلبت حاله خلال سنوات قليلة من سيئ كان يعيشه الى أسوأ ما يمكن أن يعانيه شعب أو بشر.

وللأسف، إذا ما طال زمن الأزمة فسيضطر اللبناني للتخلي مرغماً وتدريجياً عمّا يتحلى به من ميزة الإقدام ونعمتي الإصرار والابتكار، وسيطوله ما يطول معظم فقراء العالم ومعوزيه من عدم رغبة بالإقبال على الحياة وعدم مقدرة على مقاومة ضغوط القهر والفقر.

ورغم ما يتمتع به اللبناني من أَنَفة وعزّة يتلقى المغتربون منه عشرات وربما المئات من طلبات المساعدة من الأهل والأصدقاء والمعارف في الوطن الأم، وذلك إما لحاجة ملحة وإما لمجابهة طارئ غير مقدور عليه يتعلق عادة بتغطية تكاليف مرض عضال أو نفقات عملية جراحية أو لتأمين استمرارية التعلّم لطالب تعذّر على ذويه دفع أقساطه بسبب احتجاز أموالهم في البنوك.

وفي السياق، ورغم أني، تلافياً للحرج والإحراج، لم أطلب طوال فترة وجودي الطويل نسبياً في الكويت من أي شخص ولا طرقت باب أي جمعية خيرية لمعاونتي فيما يمكن أن يقدّم من عون لبعض الحالات في لبنان، اضطررت منذ أيام- وتحت ضغط وخصوصية الحالة الإنسانية التي تم الاتصال بي من أجلها- لمشاركة طلب المساعدة من بعض القلة من الإخوة والأصدقاء الذين تجمعني بهم روابط الخير والصداقة ونزعة الإنسانية السمحاء.

وبحمد الله، ودون أن يفاجئني الأمر، تمت تغطية الجزء الأكبر من المطلوب في غضون ثوان معدودة، فكان الكويتي سخيّاً واللبناني جواداً والعربي معطاءً، ولم تشكل الحدود المصطنعة والموروثات المبتذلة التي تقسّم البشر أو تنفّر النفوس أي حائل أمام فعل الخير وأمام أصحابه.

صحيح أن مثل هذا الموقف حمّلني على الصعيد الشخصي مسؤولية الثقة التي أولاني إياها الأصدقاء والأحباء من أهل الخير، حيث اعتبروا أن طلبي الذي يتسم بالاستثنائية جدير بأن يؤخذ على محمل الجدّ وأن يلبى على وجه السرعة من منطلق الأخلاق والصداقة والإنسانية، ولكن في هذه الحادثة ما دعاني إلى تذكير نفسي قبل الآخرين أن كل الخلافات بين بني البشر وكل الفروقات في تكوينهم وموروثاتهم الفكرية والعقائدية لا يمكن أن تغطّي ولا يجوز أن تمحو حقيقة ساطعة مفادها أن الفطرة الإنسانية السليمة قوامها أن رضا الخالق في إرضاء خلقه، وأن الخير يقع في يد الله العادل المنّان ذي الجود والإحسان.

فلا يغرّنك أيتها النفوس الجامحة أي منصب أو مقدرة، ولا يستفزنك أيها البشري أي سوء تصرّف، ولا يحبطنك أيها المقهور أي جاهل أو غافل، وردد أيها المؤمن توجيه العلي القدير في كتابه الحكيم «قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

شكراً لأهل الخير... فالإنسانية لا تنتمي إلى جنسية ولا يحتكرها انتماء ولا تمنعها عقيدة.

* كاتب ومستشار قانوني