في لحظة تاريخية، كانت «إنفيديا» أكبر شركة في العالم من حيث القيمة السوقية، متجاوزة عمالقة مثل «مايكروسوفت» و«أبل»، ويعود ذلك للطلب الهائل على معالجاتها التي تُستخدم في تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي، مما دفع قيمتها السوقية إلى تجاوز 3.4 تريليونات دولار، لكن هذا الصعود الاستثنائي لم يدُم طويلاً، فبعد أيام فقط، سجلت الشركة أكبر خسارة يومية في تاريخ الأسواق المالية، حيث تراجعت أسهمها بنسبة 17 بالمئة، مما أدى إلى فقدانها 600 مليار دولار من قيمتها السوقية.

لم يكن هذا الانخفاض مجرد تصحيح، بل كان إشارة إلى تصاعد المخاوف بشأن مستقبل الذكاء الاصطناعي واستدامة الطفرة الاستثمارية غير المسبوقة التي يشهدها القطاع، فمع تدفق مليارات الدولارات لتطوير هذه التقنية، يظل التساؤل: هل يمثّل الاستثمار في الذكاء الاصطناعي تحولاً اقتصادياً حقيقياً، أم أنه مجرد فقاعة تنتظر الانفجار؟

Ad

ففي السنوات الأخيرة، أصبح محور اهتمام عالمي واستثمارات ضخمة من عمالقة التكنولوجيا، مثل مايكروسوفت وغوغل وميتا، كما بات ساحة صراع شرس بين شخصيات بارزة مثل إيلون ماسك وسام ألتمان، لدرجة أن الدراسات تشير إلى أن الشركات الناشئة صارت لا تحصل على جولات استثمارية دون الحديث عن الذكاء الاصطناعي، هذه التقنيات، التي تبشّر بتغيير شامل في مجالات عدة، تعيش اليوم في دائرة تضخم القيم السوقية والرهانات العالية، مما يزيد ضغط المنافسة، خاصة إذا لم تحقق التوقعات، لكن السؤال الأهم: هل هذا الصعود هو بداية عهد جديد، أم أننا أمام فقاعة اقتصادية أخرى قد تنفجر في أي لحظة؟

فالسوق اليوم لا يُسعّر الذكاء الاصطناعي بناءً على الأرباح الفعلية، بل على وعود مستقبلية وآمال بتحقيق قفزات غير مسبوقة، مما أدى إلى تضخم التقييمات بوتيرة غير مسبوقة، ومع تزايد الضغوط على الشركات لتحقيق نتائج تتماشى مع هذه التوقعات العالية، يبدو أن السوق قد يواجه اختبارات صعبة.

في وسط هذه الطفرة جاءت الصين بمفاجأة قلبت الموازين، حيث دخلت المنافسة بقوة عبر DeepSeek، وهو نموذج ذكاء اصطناعي مفتوح المصدر أحدث صدمة في الأسواق، وقد تغيّر قواعد اللعبة، فالنموذج الصيني وفّر بديلا فعالا وأقل تكلفة مقارنة بالنماذج المدفوعة التي تعتمد على استثمارات ضخمة في مراكز البيانات والمعالجات المتطورة.

إعلان المنافس الصيني الجديد أثار قلق المستثمرين، إذ أصبح من الواضح أن النماذج مفتوحة المصدر قد تقلل من الحاجة إلى النماذج المدفوعة، مما يشكّل تهديدا مباشرا للاستثمارات التي تعتمد على بيع هذه التقنيات، كانت النتيجة سريعة وعنيفة، إذ انهارت أسهم شركات القطاع بشكل حاد، مما يشير إلى أن السوق بدأ يعيد تقييم مستقبل الذكاء الاصطناعي، فالتنافس لم يعد فقط حول التكنولوجيا، بل حول من يملك القرار في رسم مسار الذكاء الاصطناعي عالميًا.

كما شهدنا في فقاعة الدوت كوم وسوق المناخ، فإن التوقعات غير الواقعية والمضاربات المفرطة تؤدي إلى تضخم غير مستدام، ينهار عندما تعجز الأرباح عن مواكبة التقييمات المتضخمة.

اليوم، تعتمد التقييمات الحالية لشركات الذكاء الاصطناعي على وعود مستقبلية أكثر من الأرباح الملموسة، لذلك بدأت التحذيرات بالظهور، مؤسسات مالية مثل غولدمان ساكس تشير إلى أن التحولات التي وعدت بها هذه التكنولوجيا قد تستغرق وقت أطول مما يتوقعه المستثمرون، مما يعزز المخاوف من أن الفقاعة قد تكون أقرب مما يظن البعض.

في ظل هذه التقلبات، هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل الذكاء الاصطناعي. السيناريو الأول هو استمرار الصعود، حيث تتمكن الشركات من تحقيق أرباح فعلية تبرر التقييمات المرتفعة، مما يعزز الاستثمار المستمر في القطاع، السيناريو الثاني هو تصحيح تدريجي، حيث تعود التقييمات إلى مستويات أكثر واقعية مع استمرار الابتكار والتطور التكنولوجي دون انهيار شامل في السوق، أما السيناريو الثالث، وهو الأكثر خطورة، فيتمثل في انفجار الفقاعة، حيث تتعرض الشركات التي لم تحقق أرباحا فعلية لضغوط هائلة، مما يؤدي إلى موجة بيع ضخمة وخسائر كبيرة في الأسواق المالية.

لا شك في أن الذكاء الاصطناعي أحد أعظم التطورات التكنولوجية في العصر الحديث، ومن المتوقع أن يحدث تحوّل جوهري في العديد من القطاعات، لكن مع تضخم التقييمات واستمرار تدفق الاستثمارات، تبقى التساؤلات قائمة حول مدى توافق هذه الطموحات مع الواقع الفعلي، فالعالم أمام اختبار حقيقي لقدرة الأسواق على تحقيق التوازن بين الطموح والواقعية، بينما لا يمكن إنكار الإمكانات الهائلة التي تقدمها هذه التكنولوجيا في مجالات عديدة، إلا أن التقييمات المرتفعة والتنافس المحموم قد يقودان إلى انهيار يشبه ما شهدناه في أزمات اقتصادية سابقة.

التاريخ يخبرنا أن كل فقاعة تحمل في طيّاتها خطر الانهيار، الذكاء الاصطناعي قد يكون الاستثناء، أو ربما أكبر تحدّ للأسواق، الأيام القادمة فقط ستكشف الحقيقة.

* قسم التمويل في كلية العلوم الإدارية - جامعة الكويت