هما أمران متلازمان في إذعان نتنياهو لوقف إطلاق النار في غزة، فلم يكن الأمر كما فهم البعض منا، حتى لا يراق ماء وجه ترامب، الذي توعد الشرق الأوسط بالجحيم إن لم يفرج عن بضع مئات من الرهائن الإسرائيليين قبل 20 يناير، يوم تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، فحسب بل لاتفاق تم بين ترامب ونتنياهو على إيقاف الحرب، مقابل ما سيتخذه ترامب من قرار، سيعلنه لاحقاً، بعد إيقاف إطلاق النار، هو تهجير الفلسطينيين من غزة، إلى الأردن ومصر.
لذلك كان اقتراح ترامب استيلاء أميركا على غزة، ليحولها إلى ريفييرا الشرق، مفاجئاً نتنياهو، وليس صادماً له، لأن معنى هذا الاقتراح أن أميركا ستحارب «حماس» بالطريق المباشر، وليس الطريق غير المباشر عن طريق الجيش الإسرائيلي، الذي فشل في تحقيق هذا الهدف الذي أعلنه نتنياهو منذ بداية الحرب، وهذا سيخفف الضغط الداخلي على نتنياهو، وإن آجلاً أو عاجلاً ستقدم أميركا هذه الريفييرا إلى إسرائيل، من أي رئيس أميركي يخلف ترامب تحت ضغط اللوبي الصهيوني في أميركا.
دموع التماسيح
وفي سياق هذا التهجير القسري للفلسطينيين، برر اقتراحه ودموع التماسيح في عينيه، بأن غزة قد أصبحت رماداً وخراباً وركاماً لا تصلح لإيواء هذا العدد الغفير من الفلسطينيين، ليجدوا الحياة الكريمة في غيرها من البلاد، لتصبح ريفييرا الشرق، (كما كانت تشبه لبنان بريفييرا العرب) وإن نسي هذا التشبيه، كما ضن على غزة، أن يطلق عليها ولاية أخرى أميركياً، كما فعل بالنسبة إلى ضم كندا إلى أميركا، وإن كان في هذا قد أنصف الحقيقة من نفسه، لأنه قد بدأ يمارس التهجير في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها، بترحيل عنصري، لمن عاشوا عقوداً من الزمن في أميركا يعملون في خدمة العم سام، وقد أعلن حاكم ولاية كاليفورنيا معارضته لهذا الإجراء، وولايته تعتمد اعتماداً كاملاً على العمالة المكسيكية، وأن بلاده ستطرح استفتاء لانفصالها عن أميركا إذا استمر الرئيس الأميركي في هذه السياسة، وقد تناسى الرئيس ترامب أمرين: أولهما أن التهجير «إبادة باسم مستعار»، كما وصفها عنوان مقال في صحيفة الأهرام للكاتب أحمد عبدالمعطي حجازي، أما الأمر الثاني الذي تناساه ترامب كذلك فهو أن أميركا هي الفاعل الأصلي والشريك والمحرض على ما حل من خراب ودمار بغزة، حيث لم يتبق من كل 10 بيوت فيها إلا بيت واحد، في قطاع غزة كله، وذلك بالترسانة العسكرية الأميركية، وبحق النقض (الفيتو)، وبالإعلام الأميركي المضلل والملفق، بأن أبطال الأقصى ذبحوا الأطفال الإسرائيليين، كذباً وافتراءً وبهتاناً، وبالقرار الذي وقعه بفرض عقوبات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام بها، ومصادرة ما يملكون من أموال في بنوك أميركا، لأن المحكمة أمرت بضبط وإحضار نتنياهو ووزير دفاعه، للتحقيق في جريمة الإبادة الجماعية، التي ترتكب في حق الشعب الفلسطيني بغزة. بعد أن فشل الكونغرس في إقرار قانون بفرض هذه العقوبات وقد نددت 79 دولة حتى الآن بهذه العقوبات، لأنها تهدم استقلال المحكمة والعدالة في وقت واحد.
العائدون إلى شمال غزة
والبادي، أن الرئيس الأميركي قد فقد نعمة البصر، فلم يشاهد مئات الآلاف من الفلسطينيين العائدين إلى شمال غزة، قاطعين الأميال، سيراً على الأقدام حاملين رايات النصر وأكاليل الغار، في موكب مهيب وهم يرون أرضهم ريفييرا في الجنة التي وعد الله بها المؤمنين في جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ورائحة الأتربة المتصاعدة من الخراب والدمار، الذي أحدثته هذه الحرب الوحشية لإسرائيل، والتي تزكم النفوس عادة، هي رائحة المسك وأحلى أنواع البرفانات التي يعرفها كريستيان ديور، وقد استشهد على هذه الأرض الطيبة أكثر من خمسين ألف شهيد وأصبحت أرض غزة، بعد هذه الدماء التي رويت بها أرضها، أغلى بكثير مما كانت عليه، قبل السابع من أكتوبر، فالدماء والأرواح هي صقع هذه الأرض الآن، وتريليونات الدولارات التي يملكها ترامب، لا تساوي شبراً من أرض غزة.
الرفض العربي للتهجير
وقد بادر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وملك الأردن برفض التهجير ووصفه الرئيس بالظلم، ورفضت المملكة العربية السعودية، في بيان قوي لها، التطبيع بكل أشكاله وألوانه، إلا بعد قيام الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. وتداول على اليوتيوب، حديث رائع للأمير تركي، البالغ من العمر ثمانين عاماً، نجل الملك الراحل فيصل بن سعود بن عبدالعزيز، والذي كان سفيراً لبلاده في أميركا، وهو رسالة موجهة إلى العالم كله، باللغة الإنجليزية، تشرح القضية الفلسطينية، والظلم الذي لحق بالفلسطينيين على مدى عقود من الزمن، تحت سمع وبصر العالم كله.
الملك فيصل وديجول
ويروي الدكتور محمد معروف الدواليبي قصة حوار دار بين الملك فيصل والرئيس الفرنسي ديجول في قصر الإليزيه بباريس، وكان حاضراً هذا اللقاء، أدت إلى إصدار الرئيس الفرنسي قرار فرنسا بالكف عن تزويد إسرائيل بالسلاح.
وكان الرئيس ديجول قد سأل جلالة الملك فيصل سؤالاً: هل يتحدث الناس يا جلالة الملك عن أنكم تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر، وإسرائيل هذه أصبحت أمراً واقعاً، ولا يقبل أحد في العالم إزالة هذا الواقع.
فأبدى جلالته استغرابه من هذا السؤال، قائلاً له إن احتلال النازية لفرنسا، واستسلام فرنسا إلا أنت يا سيادة الرئيس، فقد انسحبت والجيش البريطاني، في مقاومة باسلة، لهذا الاحتلال، الواقع الذي لم تستسلم له، فلماذا يطلب منا نحن العرب أن نقبل بالأمر الواقع، والويل للضعيف إذا احتله القوي ليصبح الاحتلال الواقعي أمراً مشروعاً.
وقد دهش الرئيس الفرنسي من هذه الإجابة السريعة والخلاصة المركزة، التي صدرت عن سرعة بديهة صاحب السمو الملكي، ورد على جلالته:... يقول اليهود إن فلسطين هي وطنهم الأصلي، وهم أحفاد إسرائيل جدهم الأكبر الذي ولد هناك.
فأجابه الملك فيصل: إن من بين دواعي إعجابي بك تدينك، وإني على يقين من أنك تقرأ الكتاب المقدس، ألم تقرأ أن اليهود خرجوا من مصر إلى فلسطين غزاة فاتحين، حرقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء في رحلتهم إلى فلسطين، فكيف يقال إن فلسطين بلدهم، وهي بلد الكنعانيين العرب، واليهود مستعمرون، يحتلون أرضاً، ليست لهم أصلاً، وهل تقبل أن تعود روما لتحكم فرنسا بعد ثلاثة آلاف سنة، طالما هو مقبول أن يعود اليهود ليحتلوا فلسطين بعد أربعة آلاف سنة، وتعود دولتهم التي لم تدم سوى سبعين سنة في هذا الماضي السحيق، وهل من المقبول أو المعقول أن يطالب العرب بفرنسا وقد مكثوا في جنوبها مئتي عام.
وسكت ديجول واستدعى بومبيدو، رئيس وزرائه، الذي كان جالساً مع الأمير سلطان، حيث قال له: لقد فهمت الآن القضية الفلسطينية من جلالة الملك، وطلب منه أن تكف فرنسا عن تزويد إسرائيل بالأسلحة.
وقد روى هذه الرواية د. محمد معروف الدواليبي، مستشار في الديوان الملكي، منذ عام 1965 حتى وفاته في سنة 2004، وكان قد حصل على الجنسية السعودية، وكان قبل هذا المنصب ناشطاً سياسياً حقوقياً في سورية، وقد شغل فيها منصب رئيس الوزراء وانتخب رئيساً للبرلمان.