تعيش الهند وباكستان حالة صدام منذ عام 1947، حين طرح كل بلد منهما نفسه ككيان مستقل بعد عقود من الحُكم البريطاني، فقد خاضت الدولتان الحرب في تلك السنة، ثم شاركتا في ثلاث حروب أخرى في الأعوام 1965، و1971، و1999 (اقتصر التعاون العابر بينهما على فترة الخمسينيات)، وبدأت أحدث أزمة بين نيودلهي وإسلام أباد منذ ثلاث سنوات، غداة هجوم إرهابي في كشمير الخاضعة لإدارة الهند، وألحقت الهند ذلك الاعتداء بهجوم جوي في باكستان، مما دفع إسلام أباد إلى الرد.

تؤكد تلك الأزمة على تدهور العلاقات الهندية الباكستانية بدرجة كبيرة في العقد الماضي، لا سيما بعد انتخاب رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عام 2014، وينجم هذا التدهور جزئياً عن استمرار التقارب بين باكستان ومنظمات إرهابية معادية للهند، وهو جزء غير معلن من استراتيجية الأمن القومي الباكستانية، ورداً على هذا الوضع، اتخذت حكومة مودي موقفاً صارماً وجاء قرار الهند، في عام 2019، بإلغاء الحُكم الذاتي في ولاية جامو وكشمير المتنازع عليها بشكلٍ أحادي الجانب ليمعن في زعزعة العلاقات الثنائية، ولهذا السبب، يُعتبر أي تقدّم مستجد في هذه العلاقة (عبر مبادرات الهند الإنسانية غداة الفيضانات المدمّرة التي اجتاحت باكستان هذه السنة مثلاً) ظاهرياً بشكل عام.

Ad

يستعمل كتاب جديد، بقلم المحلل الهندي سوريندر موهان، مقاربة متعددة الأبعاد لتحليل العلاقات الهندية الباكستانية، فيتجنّب التفسيرات المتداولة كتلك المبنية على مفهوم الواقعية التقليدي الذي يشدد على القوة المادية، ويذكر كتاب Complex Rivalry: The Dynamics of India-Pakistan Conflict (منافسة معقدة: ديناميات الصراع الهندي الباكستاني) أن العداء بين البلدين ينجم عن خليط استثنائي من العوامل، بدءاً من صدمة تقسيم الهند، فاحتدمت الاضطرابات بدرجة إضافية لاحقاً بسبب العامل الأيديولوجي، والحدود المشتركة، والأراضي المتنازع عليها، لكن الكتاب يحمل عدداً من الشوائب التي تمنعه من التعمق في مستقبل المنافسة بين الهند وباكستان، فهو لا يعترف مباشرةً بتفوّق المؤسسة العسكرية الباكستانية على جميع الأطراف الأخرى في سياسة البلد.

يدرك موهان أن الهند وباكستان تطبّقان سياسة القوة، مما يعني أنهما تعترفان بمنافع القوة (أو التهديد باستعمال القوة) لتسوية علاقتهما الثنائية كدولتَين مستقلتَين، لكن على عكس المحللين الواقعيين الذين يركزون بشكلٍ شبه حصري على تفاوت مستوى القوة بين المعسكرين، يكتب موهان أن السياسة المحلية أدت دوراً في نشوء هذا العداء واستمراره، وأصبحت تداعيات التقسيم المريعة، حيث قُتِل أكثر من مليون شخص ونزح 10 ملايين آخرين، متشابكة مع السياسات المحلية في الهند وباكستان معاً، وبما أن مكانة كشمير لم تُعالَج بعد في البلدين، ركّز القادة السياسيون على الأراضي المتنازع عليها.

في مرحلة سابقة، قررت القيادة الباكستانية جرّ الولايات المتحدة إلى الخلاف للتصدي للقوة الهندية بسبب هوسها بالنزاع على كشمير، وفي عام 1954، استسلمت إدارة أيزنهاور لهذه التوسلات ووقّعت على ميثاق دفاعي مع باكستان، وبدعمٍ من هذه القدرات العسكرية الجديدة المكتسبة من الولايات المتحدة، أطلقت باكستان حرباً ضد الهند في عام 1965، وخلال تلك السنوات، ترسّخ العداء بين الطرفَين بسبب النزاع على كشمير وتورط القوى العظمى في الصراع، ثم اتضحت مظاهر ذلك العداء في السياسات المحلية وبلغت ذروتها خلال حرب أخرى عام 1971، ولا يطرح موهان تحليلاً جديداً حول هذه الأحداث، بل يعرض معلومات يعرفها الخبراء بشؤون المنطقة.

في المقابل، تحمل نقاشات موهان حول دور الصدمات الداخلية والخارجية في استمرار العداء الهندي الباكستاني جوانب تفسيرية إضافية. بعد حرب عام 1971، أثّر دور الجيش الهندي الطاغي في شبه القارة على زعزعة الاستقرار الإقليمي: لم يفكّر أي نظام باكستاني باستفزاز الهند طوال عقدَين تقريباً بسبب التفاوت بين القوتَين، لكن موهان يذكر أن محاولات الهند التدخّل في سياسات كشمير الداخلية ساهمت في إطلاق حركة تمرد في كشمير الخاضعة لإدارة الهند في عام 1989، وقد شكّلت تلك الصدمة فرصة مفيدة لباكستان، وعندما تورطت إسلام أباد في هذه المعمعة عبر دعم الثوار ضمناً، تحوّلت حركة التمرد من انتفاضة محلية إلى حرب أهلية تحمل طموحات دينية وتحظى بدعم خارجي.

انطلاقاً من هذه الفكرة، قد تؤثر الأزمة السياسية والاقتصادية المستمرة في باكستان على عدائها مع الهند، ففي شهر أبريل الماضي، أدى إسقاط رئيس الوزراء عمران خان إلى اضطراب السياسة الداخلية، فأصبح تجدد الحوار بين نيودلهي وإسلام أباد أكثر صعوبة، حيث تنوي المعارضة المحلية على ما يبدو مضايقة الحكومة المدنية وإلهائها عبر تنظيم مسيرات شعبية واحتجاجات في الشوارع، ولا شيء يشير حتى الآن إلى تحسّن العلاقة المشحونة بين الطرفَين بعد تعيين قائد الجيش الباكستاني الجديد، وهو رئيس وكالة التجسس السابق عاصم منير، وفي غضون ذلك، يرزح الاقتصاد تحت ثقل الديون والتضخم.

لكن لا يطرح موهان أي مقاربة جديدة لتفسير العداء بين الهند وباكستان أو تخفيف التوتر الذي يؤثر على السياسات المحلية المشحونة داخل الدولتَين في الوقت الراهن، فهو يرتكز على مراجع نظرية لاقتراح مسار محتمل قد يلجأ إليه البلدان لإنهاء خلافهما، لكن تبقى اقتراحاته عامة وتوجيهية بدرجة معينة، وكخطوة أولى، يقترح موهان أن تأخذ النُخَب الهندية والباكستانية بعض المجازفات لمنع تصعيد الوضع، وقد تؤدي هذه الخطوات إلى إنهاء العداء بين الطرفَين في نهاية المطاف، لكنه لا يذكر الدوافع التي تشجّع كل طرف على تبنّي هذا النوع من المقاربات المحفوفة بالمخاطر، حتى أنه لا يتطرق إلى تفاصيل تلك المجازفات المطلوبة.

أخيراً، يتعلق أكبر جانب سلبي في الكتاب بامتناعه عن التطرق مباشرةً إلى مسألتين لا تزالان تؤثران على الاضطرابات المستمرة بين الهند وباكستان. يلجأ موهان إلى مراجع مناسبة (أبرزها تحليل الباحثة مايا تودور عن هذا الموضوع)، لكنه لا يتكلم عن نقطة الضعف الأساسية في المؤسسات السياسية المدنية داخل باكستان بالشكل المناسب، فقد أدى ضعف هذه المؤسسات وعجزها عن حماية النظام منذ البداية إلى نشوء المشكلة الثانية: عودة العلاقة الاستبدادية بين الجهات البيروقراطية والعسكرية إلى الواجهة في ظل غياب المؤسسات المدنية القوية.

نشأ هذا التحالف بين الجيش والأوساط البيروقراطية النخبوية في أواخر الخمسينيات، وأصبح جزءاً ثابتاً من السياسة المحلية الباكستانية، ورغم فقدان الجيش الباكستاني مصداقيته الأخلاقية بسبب دوره المشين في حرب عام 1971 (أطلق حملة إبادة ضد المعارضين البنغال حينها)، فإنه نجح مجدداً في إعادة تنظيم صفوفه واسترجاع دوره المحوري في السياسة المحلية، وفي الوقت نفسه، لطالما بالغ الجيش الباكستاني في التكلم عن التهديد الأمني الذي تطرحه الهند خدمةً لمصالحه الخاصة، وقد حصد نفوذاً هائلاً لدرجة أن يصبح أهم طرف مؤثر في المعترك السياسي الباكستاني.

تواجه المؤسسة العسكرية الباكستانية اليوم خصماً عنيداً في نيودلهي، حيث ينظر مودي، رمز القومية الهندوسية، إلى الصراع انطلاقاً من سياساته المحلية الخاصة، فهو يستفيد من موقفه الصارم تجاه باكستان لكسب الدعم من أبرز ناخبيه محلياً، ويواجه الطرفان، اليوم أكثر من أي وقت مضى على الأرجح، مشكلة قد تصل إلى مستوى المأزق الحقيقي، كذلك، تعطي الاضطرابات السياسية المستمرة في باكستان عذراً جاهزاً لمودي كي يتجنب إطلاق أي مبادرة لتحسين العلاقات الثنائية، وتزامناً مع ترسيخ سياسة القومية الهندوسية في الهند خلال عهد مودي، تبدو فرص أي حوار مثمر مجرّد سراب.

* سوميت غانغولي