قبل أسابيع تحدثتُ عن بيروقراطية قاتلة تأكدت من أننا لا نقدر على الخلاص منها، دفعت بذاكرتي إلى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، عندما قضيت أياماً عدة للحصول على شهادة موقعة من مديرة مدرسة ابتدائية ووكيلها ومشرفة الجناح فيها، لتقديمها لوزارة التربية من أجل استكمال تواقيع وأختام مديرين ومراقبين ورؤساء أقسام على شهادة تثبت أن ابني كان يدرس في الصف الثاني الابتدائي بمدرسة ابتدائية حكومية، لتقديمها إلى إحدى المدارس الابتدائية في الولايات المتحدة الأميركية لا أعرف موقعها في المدينة ولا أعرف مديرها.
عندما استخرجت هذه الشهادة كانت قد امتلأت بعشرات التواقيع والأختام غطت على سطرين فقط احتوتها تلك الشهادة. ورغم معاناتي التي امتدت أياماً عدة متواصلة في بلدي، تم قبول ابني في مدرسة ابتدائية أميركية في لحظات دون أن يطلع مديرها على شهادة «لمن يهمه الأمر» ذكرتني بلوحة «إصرار الذاكرة» للفنان الإسباني سلفادور دالي، التي صورت ساعات ذائبة رمزت إلى طبيعة غامضة وغير مستقرة للزمن وللذاكرة.
وإذا كانت مجرد ورقة شهادة لا قيمة لها عند الغرب يتسابق مسؤولونا في وضع تواقيعهم وأختامهم عليها، فلا تعجب إذا ما تسابق محافظ البنك المركزي ووزير المالية يوماً ما على طبع إصدار جديد لأوراق نقد كويتية لمجرد أن يفاخرا بوضع توقيعهما عليها.
في مصر الستينيات والسبعينيات كانت الشرطة في مصر تستخدم مصطلح «كعب داير» للتعبير عن إجراء روتيني «مذل» يقوم خلاله رجل أمن باصطحاب متهم إلى كل مديريات الأمن وأقسام الشرطة في جميع المحافظات المصرية، البالغ عددها 29 محافظة، لمجرد التأكد من أن هذا المتهم الخطير الذي ارتكب جريمة في إحدى محافظات مصر غير متهم بجرائم أخرى مسجلة ضده في بقية محافظات الجمهورية. ورغم ما في هذا الإجراء من إذلال وإجهاد جسدي ونفسي للمتهم المقيد اليدين ولرجل الأمن المرافق خلال انتقالهما من قطار إلى آخر بين جموع المصريين، إلا أن مجرد ذكر مصطلح «كعب داير» أمام أي متهم معناه أنه لن يرى النوم أو الراحة خلال رحلة قد تستغرق أكثر من 3 أسابيع.
ويبدو أننا ورثنا أسلوب «الكعب الداير» من الإخوة المصريين، ومازلنا نتبعها في حياتنا اليومية وفي علاقتنا بمؤسسات الدولة، دون أن نطبقها بمعناها الحرفي، ولكن بطريقة أخرى لا علاقة لها لا بالمتهمين ولا بالمرافقين من الشرطة، فهي إن كانت تطبق في بعض وزارات الدولة فإنها أخف بكثير مما يحدث من إذلال لمتهمين أو لرجال أمن كما كان يحدث في مصر.
فهذا مواطن يستخرج ورقة حصر وراثة ليذهب بها إلى كل البنوك الكويتية ووزارات الدولة للتأكد من حجم ممتلكات المتوفى على الرغم من إمكانية حصرها آلياً دون تكبد العناء الماراثوني. ولنا في طباعة نماذج الهجرة أو رخص القيادة أو غيرها من معاملات وزارة الداخلية مثال صارخ لما يعانيه المواطن كان يمكن إنهاؤها آلياً دون الحاجة إلى الاعتماد على طباعين وافدين.
فعلى الرغم من التقدم التكنولوجي وتطور وسائل الاتصال بالجماهير، وإعلان الحكومة عن استخدام كل وزارة من وزاراتها لتطبيق يساهم في تسريع وتيرة تخليص معاملات المراجعين، ومنها تطبيق سهل وهويتي وأولوية وكويت موبايل وغيرها من التطبيقات، إلا أن حكومتنا الرشيدة تتناسى هذه التطبيقات وتعتمد على الطباعين في كثير من مؤسسات الدولة.
كما أنني أتساءل: أليس بإمكان المراجع أن يتوجه مباشرة إلى الموظف المختص لإدخال كل البيانات التي تخص المراجع في كمبيوتر الدولة بدلاً من أن يطلع عليها غير الكويتيين؟ لماذا تتبع حكومتنا الرشيدة أسلوب «وين إذنك يا جحا»، أو النموذج الحديث من «الكعب الداير»، وهي في حقيقة الأمر قادرة على تسهيل الأمر على المراجع وموظفيها؟