قبل سنوات قليلة من وفاته عام 2020، وصف الكاتب والصحافي الإنكليزي روبرت فيسك لبنان بالتالي: «جبال جميلة وطعام شهي وسكان متعلمون بشكل استثنائي، لكنهم طائفيون، لبنان الوطن أشبه بسيارة رولز رويس بمقاعد جلدية فخمة، وداخلها تلفزيون بشاشة مسطحة وبار كوكتيل، ولكن بعجلات مربعة حيث من المستحيل أن تسير».

والآن بعد أكثر من 100 سنة على قيام دولة لبنان الكبير، يجد لبنان نفسه أمام خطر يتهدد وجوده بالكامل، فهو يعاني انهيارا ماليا ومصرفيا وجمودا سياسيا ودستوريا، وأزمات بيئية واجتماعية وصحية، بالإضافة إلى أزمة النازحين السوريين والفلسطينيين، كما أنه تحوّل إلى ساحة لتصفية الحسابات في المنطقة حيث تخاض الحروب بالوكالة فيه ومن دون أي حل يلوح من بعيد.

Ad

وتجدر الإشارة إلى أنه منذ قيام دولة لبنان الكبير حتى الآن، عاش لبنان نحو 70 سنة من أصل 104 سنوات وعلى أرضه وجود عسكري أجنبي، فهناك 26 سنة قبل الاستقلال وجلاء الفرنسيين، بالإضافة إلى 36 سنة منذ بداية الوجود الفلسطيني المسلح عام 1969 وتكريسه رسمياً في اتفاق القاهرة، ثم حتى سنة 2005 تاريخ خروج الجيش السوري من لبنان، مع الإشارة إلى أنه قبل تلك الفترة تم إنزال المارينز الأميركي في ثورة 1958، وخلالها تم استقدام القوة المتعددة الجنسية إثر الاجتياح الإسرائيلي الشامل للأراضي اللبنانيّة عام 1982، سبقه اجتياح إسرائيلي محدود لجنوب لبنان عام 1978، وهنا يظهر جلياً أن كل ما كان يحدث في لبنان سببه أن الأدوار الخارجية الدولية هي التي تؤثر في القرارات الداخلية للبلد لا مجرد نزاعات سياسية داخلية.

أما الحلول المقترحة فتأتي على أشكال عديدة مثل تعديل اتفاق الطائف وتغيير النظام السياسي وإقامة مؤتمر تأسيسي أو مؤتمر وطني، بالإضافة إلى الفدرالية واللا مركزية الإدارية ونظام الحياد وغيرها من الاقتراحات، وفيما يتعلق باتفاق الطائف، تمكن هذا الاتفاق من تحقيق سلام ولو مؤقت في لبنان بعد الحرب الأهلية الدامية التي استمرت 15 سنة، وتختلف الآراء حوله حيث يجد البعض أنه الحل، في حين يجد البعض الآخر أنه المشكلة، وقسم يظن أنه لم ينجح ببساطة لأنه لم يتم تطبيقه بالكامل. وقد يكون العامل الأكبر في فشل تطبيق دستور الطائف أزمة الهوية اللبنانية والانتماء، فحتى الآن لم يتم التوصل إلى تحديد الهوية اللبنانية الوطنية بسبب انتماء اللبنانيين إلى مذاهب وطوائف أكثر من انتمائهم إلى الوطن، وبالتالي فإن هوية اللبناني هي مذهبية وطائفية أكثر مما هي هوية وطنية.

أما الخيار الفدرالي الذي يتم طرحه كبديل عن الخيار الطائفي فهو ليس بجديد، فقد كان موضوع نقاش بين المسيحيين قبل الحرب الأهلية وخلالها، كما عرض الرئيس كميل شمعون في خمسينيات القرن الماضي خطة مفصلة للبنان الفدرالي، هذا وقدمت الجبهة اللبنانية، التي تمثل تطلعات الموارنة بشكل رئيس، مشروعًا فدراليًا خلال الحوار الوطني اللبناني في لوزان عام 1984، بالإضافة إلى الرئيس المنتخب بشير الجميل الذي تناول موضوع الفدرالية بدوره في مناسبات عدة، وبالرغم من أن اتفاق الطائف أنهى الحرب الأهلية، فقد تلاه الاحتلال السوري حتى عام 2005 ثم أتى بروز الحزب الشيعي الإسلامي حزب الله، وهو ميليشيا مسلحة تعمدت إنشاء دولة ضمن دولة بجيش أقوى من الجيش اللبناني، والطامة الكبرى حين عقدت النخبة السياسية اللبنانية صفقة مع حزب الله شبيهة بمساومة فاوست مع الشيطان، حيث أعطت الشرعية لحزب الله مقابل تأمين الغطاء عن سرقتها للدولة، وهذه الصفقة هي التي أوصلت لبنان إلى انهيار شبه كامل، وبخلاف الدولة المركزية، فإن السيادة في الأنظمة السياسية الفدرالية موزعة بطريقة غير مركزية مع ضمان جميع الأطراف لحقوق المواطنين ومسؤولياتهم، وعادةً ما يحتفظ المركز بصلاحيات الدفاع والسياسة الخارجية، وهي إحدى أكثر المسائل المتنازع عليها في لبنان بسبب استحالة اللبنانيين التوصل إلى اتفاق فيما بينهم حول توجهات السياسة الخارجية واستراتيجية الدفاع في لبنان.

أحد الحلول المطروحة كذلك هو تطبيق اللامركزية الإدارية في لبنان، حيث تتوزع السلطة الإدارية على المستوى المحلي بدلاً من أن تكون الصلاحيات بشكل مركزي، وتكون هذه السلطات منتخبة بالكامل وتتمتع بالاستقلال الإداري والمالي، وهو استقلال إداري فقط، لأن الاستقلال السياسي سيصبح في مصاف الفدرالية، لكن التوترات الطائفية والخلاف السياسي وعدم التوصل إلى أي حوار بالإضافة إلى صعوبة التوزيع العادل للموارد بين المناطق وعدم استقلال السلطة القضائية والفساد المستفحل وعدم إصلاح الإدارة المركزية في الدولة بالإضافة إلى التحديات الأمنية والمالية والاقتصادية وغيرها تجعل نظام المركزية أمراً مستحيلاً قبل التوصل إلى حلول لكل العوائق الحالية.

أما نظام الحياد بحسب القانون الدولي العام فهو ينص عامةً على أنه لا يحق للدولة المحايدة الدخول في أي نزاع مسلح أو اتخاذ طرف في أي صراع أو مساعدة أي طرف في السلاح والقتال، مع الإشارة إلى أن الخبراء الدوليين والجهات اللبنانية المطالبة فيه يشيرون إلى ضرورة توافر 3 شروط على الأقل لإمكانية تطبيقه في لبنان: موافقة غالبية اللبنانيين عليه، وموافقة الدول المجاورة له، وقدرات لبنان على حماية حياده بنفسه.

ومن هنا نجد أن تطبيق الحياد يكاد يكون مستحيلاً بسبب سياسات الدول الخارجية تجاه لبنان بالإضافة إلى الخلاف القائم بين اللبنانيين أنفسهم على هذا الأمر، كما أن دولتين مجاورتين للبنان معنيتان بشكل أساسي في حياد لبنان وهما سورية وإسرائيل، فلبنان المحايد هو خسارة لسورية التي تحتاج إلى لبنان كحليف، كما أن لبنان هو مطمع لإسرائيل لتحقيق أطماعها والضغط على لبنان للاعتراف بدولة إسرائيل وعزل لبنان عن محيطه العربي.

ولا ننسى أن انتماء لبنان إلى جامعة الدول العربية ومع ما يترتب على ذلك من مواقف لبنان على الساحة الدولية وتوقيعه على العديد من الالتزامات والاتفاقيات والمعاهدات معها يجعل من الصعب جداً أن يتمكن لبنان من التحول إلى دولة محايدة، أما قدرات لبنان على حماية نفسه خصوصا أن إسرائيل المجاورة له تملك قدرات عسكرية هائلة تجعل من المستحيل أن يتمكن لبنان من امتلاك جيش للدفاع عن حياده في حال تعرض للاعتداء، مما يترتب عليه عقد اتفاقات دفاعية مع المجتمع الدولي، ولكن لا نعرف ما إذا كان المجتمع الدولي يوافق أصلاً على حياد لبنان أم لا.

من الواضح أن لبنان لن يتمكن من أن يصبح دولة ناجحة قائمة بحد ذاتها كما كان يوماً لبرهة من الزمن قبل الحرب الأهلية اللبنانية، ليس في المستقبل القريب على الأقل خاصة مع الكم الهائل من التحديات والمشاكل المتشعبة التي لا حصر لها والتي يحتاج إلى حلها، إن كان على الصعيد الداخلي أو الخارجي.

وهنا أتذكر مقولة «لم تُبنَ روما في يوم واحد»، أي أن أي عمل عظيم لا يتم خلال يوم واحد بل يحتاج إلى الوقت الكافي وسنين من الصبر والاجتهاد والتخطيط، ولكن حين نتأمل وضع لبنان، نجد أن مشكلة لبنان ليست في عامل الوقت، فلبنان موجود منذ القدم وتاريخه دوماً أسود وحافل بالحروب والنزاعات، فالمشكلة تكمن في تركيبة لبنان ونسيجه اللذين جعلا منه أرضا خصبة للصراعات والتفرقة، وهو مطمع للجميع حتى للمواطنين أنفسهم الذين تسببوا في انهياره، مع غياب أي نية للإصلاح والتعافي لأنه من الواضح أن دمار لبنان هو مصلحة الجميع.

وبالمناسبة، فإن مقولة «لم تُبنَ روما في يوم واحد» لها قسم آخر لا يتردد كثيراً، وهو كالتالي: «لم تُبنَ روما في يوم واحد، لكنها كانت تضع الحجر على الحجر كل ساعة حتى بنيت بالكامل».