«بَرْدُ غَدَاةٍ غَرَّ عَبْداً مِنْ ظَمأ»... مثل عربي قديم يُضرَب لمن يغتر بظواهر الأمور فيُخدع بها من دون أن يحسب عواقبها، وما قد يُواجهه في قادم أيامه.
ووراء هذا المثل حادثة. فقد قيل إن عبداً سَرحَ الماشية في غداة باردة، من دون أن يتزّود بالماء، مغتراً بالبرد الذي سيمنع عنه العطش، فلما انتصف النهار، حميت عليه شمس الصحراء، واشتدت حرارتها، فعطش، إلا أنه لم يجد ما يروي به ظمأه، فكان مصيره الهلاك.
فبرد الغداة هنا هو برد الصحراء القارس الذي يضرب في الصباح الباكر، فغرّ البرد الشديد في أول النهار العبد المسكين، معتقداً أنه سيتواصل طول نهاره، ولهذا لم يتزود بالماء احتياطاً، ظاناً أنه لن يعطش بسبب البرد، ولن يهلك من ظمأ.
فـــ «بَرْدُ غَدَاةٍ غَرَّ عَبْداً مِنْ ظَمأ»، مثَل يحمل في طياته حكمة عميقة حول حاجة الإنسان إلى الحذر، وإلى ضرورة الاحتياط مسبقاً من تقلبات الحياة المفاجئة وغير المتوقعة التي تحصل للأمم وللبشر، والإفراط في الثقة التي قد تؤدي إلى الهلاك، وفي أضعف الإيمان إلى خسارة وفقد ما أنت بصدده، فالحيطة هي سمة حسنة ومطلوبة من الأمم المتقدمة، كما أنها من خصال الأفراد المتحضرين.
وقد حثنا ديننا الحنيف على الحيطة والحذر من عواقب الأمور، حتى أن صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم الكرام، والعديد من علماء الأمة كان لهم فيها نصائح قيمة، فعمر بن الخطاب خليفتنا الثاني، رضي الله عنه وأرضاه، والذي كان شديد الحذر في أمور الدولة، قال: «إن الحذر سلاح المؤمن»، أما خليفتنا الرابع، سيدنا علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، ورضي الله عنه وأرضاه، فقال: «الحذر من الشر أيسر من علاجه».
وقال أبوالدرداء في ذلك: «من استكثر الحذر قليل ما أخطأ»، وقال الإمام الشافعي: «الحذر من الشرور أولى من طلب المصالح»، وقال ابن القيم الجوزية: «الحذر من الشيطان أولى من الحذر من الأعداء»، فالحذر هو سلاح المؤمن ضد الفتن والمكائد، أما ابن مسكويه فقال: «الحذر من الأصدقاء أشد من الحذر من الأعداء، فإن الأعداء يعلنون عداوتهم، أما الأصدقاء فيخفونها»، وهذه نصيحة لابد من التبصر فيها.
وهناك كثيرون من الذين حذّروا في زماننا هذا من الغش والتدليس، والتحقق من صحة أي معاملة مالية، والحذر من البدع والضلال، فالحيطة والحذر ليسا ضعفاً، بل هما دليل قوة وعقلانية، والأمم الحكيمة هي التي تحتاط مالياً وتنموياً وتعليمياً لتحصن مستقبل بلادها وشعوبها.
الحيطة والحذر مطلب وواجب وطريقة حياة للأمم وللأفراد، وإلا أصبح مصير الجميع كمصير الراعي الذي أهلكه استهتاره.