نقاش مع «الربع» في الديوانية قبل أيام حول اللغة الانكليزية في أميركا قادني للتأمل العميق فيها، فعندما نتأمل نشأة اللغة الإنكليزية في أميركا، نشعر وكأننا نقرأ قصة طويلة مليئة بالفصول التي تتشابك فيها الأحداث وتتداخل الأصوات، ليست اللغة هنا مجرد كلمات تُنطق، بل هي حكاية استعمار وهجرة ومقاومة، إنها أشبه بمسرحية ضخمة على مسرح العالم الجديد، حيث يتقاطع القديم مع الجديد، وتتشابك الثقافات في رقصة لا تنتهي.
كانت البداية مع تلك اللحظة التاريخية في عام 1607، حين حطّت أول سفينة إنكليزية رحالها في «جيمستاون» بولاية فرجينيا، أستطيع تخيل المستوطنين وهم يتحدثون بلهجاتهم الإقليمية المختلفة، يحملون لغتهم معهم كما يحملون أمتعتهم البسيطة وأحلامهم الكبيرة، لم تكن اللغة مجرد وسيلة للتواصل، بل كانت جسرًا يمتد من إنكلترا إلى هذا العالم البعيد الذي بدا لهم وكأنه مليء بالفرص والمخاطر في آنٍ واحد.
لكن الصورة لم تكن بهذا الوضوح فقط، في هذا العالم الجديد، لم تكن اللغة الإنكليزية هي الصوت الوحيد، كان هناك أصوات السكان الأصليين، تلك الأصوات العتيقة التي تحمل في طياتها حكايات الأرض وأسرار الطبيعة، كان التفاعل بين المستوطنين والسكان الأصليين محدودًا، لكنه لم يكن بلا أثر، بعض الكلمات الأصلية تسللت إلى الإنكليزية الأميركية، كما لو أنها بصمات خفية تركها السكان الأصليون في نسيج اللغة.
ثم جاءت موجات الهجرة الكبرى، كأن أميركا كانت تمثل مغناطيسًا ثقافيًا يجذب الشعوب من كل حدب وصوب، الهولنديين، الألمان، الفرنسيين، والإيرلنديين، جلبوا جميعهم لهجاتهم الخاصة وكلماتهم الفريدة، ليصبح النسيج اللغوي في أميركا أشبه بلوحة فسيفساء تنبض بالتنوع.
تغيرت اللغة مع الزمن، كما تغيرت أميركا نفسها، وأستطيع أن أتصور كيف كان استقلال الولايات المتحدة في عام 1776 نقطة تحول ليس سياسيًا فقط، بل لغويًا أيضًا، وأصبحت الإنكليزية الأميركية رمزًا للهوية الجديدة، مستقلة في نطقها وكلماتها عن الإنكليزية البريطانية التي خلفتها وراءها.
وفي القرن التاسع عشر، مع التوسع نحو الغرب، كانت اللغة تنتقل مع المستوطنين، وتتكيف مع الجغرافيا الجديدة وتستعير من لغات الشعوب التي واجهتها، ومن هنا ولدت لهجات إقليمية تعكس طبيعة الأرض وروح الناس الذين عاشوا عليها، لكن في حين كانت الإنكليزية الأميركية تزداد قوةً وتأثيرًا، كان هناك شيء يتلاشى!
بالمناسبة، وأنا أكتب عن نشأة اللغة الإنكليزية في أميركا وتطورها، لا يسعني إلا أن أعود للتفكير بلغتنا العربية، تلك اللغة التي حملت حضارة بأكملها على أكتافها، وصاغت ملامح الإنسانية في أوج تألقها، اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتواصل، إنها هوية، وجذور تمتد عميقًا في تاريخنا وثقافتنا.
في وقت تكتسب فيه الإنكليزية حضورًا عالميًا بفضل الإعلام والاقتصاد والسياسة، تصبح مسؤوليتنا تجاه لغتنا العربية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، العربية ليست مجرد لغة، إنها وعاء يحمل تراثنا، وشعورنا، ورؤيتنا للعالم.
إن قوة اللغة الإنكليزية يجب ألا تدفعنا للتخلي عن لغتنا الأم، بل ينبغي أن تكون دافعًا لنا لنحافظ على العربية ونعزز مكانتها، كيف لنا أن نفقد لغة الشعر والبلاغة، لغة القرآن الكريم، اللغة التي تتجلى فيها الروح الإنسانية بأبهى صورها؟
قال الشاعر:
هل في لُغَاتِ الكون كاللغة التي
يسمو بأحرفها... كلام الله؟!
حق علينا... أنْ نَظلَّ الدهر في
محرابها... نشدو لها ونُباهي!
إن الحفاظ على العربية ليس مجرد واجب ثقافي، بل هو ضرورة حضارية، لأنها تربطنا بماضينا وتفتح لنا آفاق المستقبل، إذا أردنا لأجيالنا القادمة أن تحيا بكرامة واعتزاز بهويتها، فعلينا أن نغرس فيهم حب العربية، ليس كحروف تُكتب وتُقرأ، بل كلغة حياة تُعاش وتنمو.
فاللغة التي تحمل هويتنا هي المفتاح الحقيقي للانفتاح على العالم، لأن الانفتاح لا يعني التخلي عن الذات، بل يعني أن نُقدم للعالم ما لدينا من ثراء ثقافي ولغوي بحب وثقة.