حدود المصنع والوقت ظهراً أو ما قبله والزحمة لا تتناسب مع محاولات هذا الكم من البشر دخول أراضي بلد عاش للتو تغييراً جوهرياً في نظام حكمه، بل ربما في كل ما يتعلق بتفاصيل الحياة فيه، تقف في الطابور يبدو معظم القادمين المتحمسين من السوريين، فلا أغراب بينهم إلا شخص بدا كأنه مراسل صحافي لإحدى الصحف الأوروبية، وهم كثر في هذه الأيام، سواء في لبنان أو سورية، بل إن الفضاء العام يعج بهم حتى أصبحوا جزءاً من المشهد الجديد في البلدين الملتصقين اللذين خطفا الأنظار بعيداً جداً عن غزة وإبادتها.

لا يطول الوقت حتى يصل دورك، وبعد بضعة أسئلة من الموظفين المسؤولين لما يبدو أنهم مجموعة جديدة على هذه المهنة أو النظام القديم المتوافر بالأجهزة المهترئة كما كان هو، يختم الشخص المسؤول على ورقة ويرفقها بجواز السفر، بعدها حاجز للكشف على العربات، وكان أطول من طوابير الخبز في أوطاننا البائسة، وعنده موظف أيضا فيما يبدو جديد على هذه الوظيفة، لكنه يحاول أن يقوم بدوره سريعاً، هناك تجمعات قبل الانطلاق في طريق الشام، لبعض المسلحين بتنويعاتهم أو هكذا بدا، قليلون منهم كانوا لابسين الأسود وملثمين باللون نفسه، وهؤلاء سنرى منهم هنا وهناك في دمشق لاحقا لكنهم ليسوا الأكثر بروزا في المشهد المسلح للحكم الجديد في سورية.

Ad

الطريق الى دمشق خال من الحواجز رغم وجود بعض المسلحين هنا وهناك، وخال أيضا من صور الرئيس السابق بشار الأسد التي كانت ترافق القادم الى سورية في كل زاوية منها، ولم تبق صور له إلا على ورقة العملة السورية التي تصور بعضنا أنه سيصعب عليهم استخدامها، لأنها تحمل الصورة في تصور يبدو ساذجا بعض الشيء، لكنه يعبر عن الكثير من الأسئلة المرتبطة بهذه المرحلة الجديدة من الحكم في سورية، سورية الجديدة كما تبدو الآن بلا صور لزعماء ولا حكام أو هكذا هي بعد أقل من شهر من سقوط النظام السابق، ولكن امتلأت بالعلم الجديد القديم ذي الثلاثة نجوم بدلا من علم الوحدة ذي النجمتين.

ساحة الأمويين امتلأت باكشاك، تقول صديقتي، لم تعد كما كانت، لكنها أصبحت فضاء لكل المعتصمين أصحاب المطالب، وهو انعكاس لضوضاء الشام الآن بعد الثامن من ديسمبر، أي بكثير من اللقاءات والتجمعات والنقاشات والمجموعات للنسويات والشباب والمثقفين والفنانين والصحافيين والاقتصاديين وكثيرين غيرهم ضوضاء تعج تراها واضحة في قهوة الروضة الشهيرة، حيث أصبحت مركزاً للقاءات كل القادمين من بقاع الأرض من سوريين وغيرهم، لكنهم في مجملهم سوريون مزقتهم الغربة، تعج القهوة في أي وقت من النهار إلا أن مساءاتها هي الأكثر حيوية وسط سحب من دخان الأراجيل والسجائر وضوضاء الأصوات المتناقشة المتعارضة أحيانا، المختلفة فقط على تصديق كل ما ينشر أو يسمع، لأن الإشاعات سيدة الموقف، أو حتى عندما يثبت حادث انتهاك في حماة أو حمص يرددون جميعا «إنها حوادث فردية»، ماذا تتوقعون لقد أسقطنا نظاماً طال عمره، وقام بكل أعمال القمع لكل الآراء؟».

لحظات ويعلو صوت الأغنية الأكثر انتشاراً وشهرةً الآن في شوارع دمشق وأزقتها «ارفع رأسك فوق أنت سوري حر»، ويكملون فيقف شاب ويسحب معه إحدى الفتيات المتحلقات حول المائدة، ويرقصون الدبكة، فيعلو التصفيق والضحك، إنه فرح الحرية، كما قال ذاك الصديق الكاتب خفيف الظل، ويلحق ذاك التصريح بالتساؤل «هل تستهينين بخمسين عاما من القمع والرأي الواحد؟»، ثم يعلق على كل هذا الكم من الشابات والشباب وحتى بعض الشيوخ الذين غابوا طويلا عن دمشق لأسباب يعرفها الجميع، يقول «هي سياحة ثورية» يأتي السوريون والسوريات ليشاركوا في «فرحة إسقاط النظام وانتصار الثورة»، ويشدد على كلمة ثورة، وكأنه يسخر من الوصف أو يشكك فيه، «ثم يعودون إلى مدنهم البعيدة في أوروبا ومراكز عملهم ومنظماتهم المختلفة ونعود نحن الباقين هنا لما كنا عليه نطرح الأسئلة ونعيد تكرار مخاوفنا ونعود في آخر المساء الى بيوتنا المعتمة، فلا تزال الكهرباء وحتى الماء من الرفاهيات في شتاء دمشقي قارس».

الشوارع مكتظه كما لم نرها من قبل، ورغم بعض التحسن في توفير الوقود فإن الشح فيه لايزال قائما، ومعظم العربات القادمة تحمل لوحة محافظة إدلب ثم حلب وهو المتوقع، فالقادمون جاؤوا من هناك، يردد الكثير من السوريين على القادم إنهم فرحون في حين يقول بعضهم ولكن هناك الكثير من المخاوف والأسئلة المطروحة دون إجابات، كثيرون يقولون إن القيادة الجديدة في سورية لم تلتق بسوريين من مختلف الفئات والتخصصات على قدر لقاءاتها مع القادمين من الخارج، ويتبعون ذلك بالقول رغم إدراكنا أن الشرعية الدولية للدولة الفتية «مهمة طبعا»!! ثم يرددون إن الإعلام القادم الذي تمترس ليقتنص كل تفصيله في حياة السوريين والسوريات يتفادى هو الآخر تجمعات ولقاءات وندوات بعينها تبدو غير «مناسبة للصورة التي يريدون رسمها للحظة الحالية»، فكانت هناك ندوة مهمة تطرح أسئلة حول مستقبل سورية، وكثير منها يتمحور حول الاقتصاد والسياسة، وهما ملتصقان، وفي حين اكتظ المدرج بالحضور لم نشاهد كاميرا أو مراسل أو حتى «يوتيوبر» أو «بلوغر» أو «إنلفونسر»، وهم كثر كثر في دمشق الآن.

تهمس تلك السيدة التي رفضت الخروج من سورية رغم كل المضايقات وهي الكاتبة والإعلامية «حتى الآن في رأيي أن ما طرحه المحاضر الأستاذ سمير العيطة أكثر جرأة من أن يتمكن أي منا أن نطرحه، كيف، والخوف أصبح جزءاً من نفسياتنا؟»، وبعد تنهيدة طويلة تردد «نحن بحاجة إلى إعادة تأهيل أو إعادة تعوّد على الحرية وانتزاع الخوف».

هناك صور أخرى عديدة لدمشق الآن ربما تروى في حلقات قادمة ربما!!!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية