بعد سقوط نظام بشار الأسد وفراره خارج البلاد، وجد السوريون أنفسهم أمام واقع جديد، تصدر فيه أحمد الشرع المشهد كقائد للإدارة السورية الجديدة، هذا التحول السريع، الذي جاء بعد سنوات طويلة من الصراع والمعاناة، أعاد إلى الواجهة الكثير من الآمال والطموحات، لكنه أثار أيضاً العديد من المخاوف.

نشر الإعلامي أحمد منصور، المعروف بقناعاته وانتماءاته، تسجيلًا بعنوان «20 سراً في شخصية أحمد الشرع» سلّط فيه الضوء على كواليس اللقاءات القديمة والحديثة التي جمعته به، مركزاً على ما لفت انتباهه من صفات الشرع الذي يتمتع، برأيه، بذكاء عقلي حاد وذكاء اجتماعي واضح، وخصال مميزة تمكّنه من حل المشكلات واتخاذ القرارات، مع إجادة واضحة لفن التواصل مع من يتفقون أو يختلفون معه، ووضوح في الرؤية والأهداف الاستراتيجية، وامتلاكه شخصية براغماتية تتميز بديناميكية التفكير والقدرة على التموضع الجيد، إضافة إلى ثقافة واسعة وقدرة كبيرة على الإقناع، مع قدرة الشرع على امتصاص الصدمات والتعامل مع الأحداث الكبرى، واعتماده سياسة الباب المفتوح والقرب من الناس.

Ad

في الحقيقة خلت نفسي- وأنا مركّز في مضمون التسجيل وأسلوب التشويق ونقل القناعة الذي حدّث فيها منصور متابعيه- أننا أمام شخصية استثنائية أقرب إلى خلفاء صدر الإسلام، ولسنا أمام شخصية عادية، رغم ما قد يكون لديها من تميّز وإيمان واجتهاد، وصلت إلى ما هي عليه بإرادة دولية أنهت دور الأسد وحكمه!

ولكن هل تكفي شهادة منصور وأمثاله، من مؤيدي النخبة والعوام، لإعطاء الشرع صك النجاح والتميّز، وتكريس القناعة بأن «سورية الأسد إلى الأبد» لن تصبح يومًا ما «سورية الشرع»، أو سورية أي شخصية أخرى تختال زهواً على وقع أهازيج التمجيد؟!

العبرة من الماضي

لطالما كانت التجارب التاريخية خير شاهد على مخاطر تمجيد الأشخاص، فكم من شخصية بدأت مسيرتها السياسية بنوايا حسنة وتأييد شعبي واسع، لكنها انتهت إلى استبداد وقمع، ففي اللحظة التي يُرفع فيها القائد فوق المساءلة، ويُحاط ببطانة من المصفقين والمطبلين، يبدأ الانحراف عن المسار، وتبدأ الخطوات الأولى نحو التراجع ومن ثم الانهيار.

الشرع، الذي وصفه منصور بالبراغماتي والواقعي، قد يكون استثناءً، لكنه بالتأكيد ليس معصومًا، وحداثة عهده بتسلّم زمام الأمور تعني أن من المبكّر جدًا إصدار أحكام نهائية على تجربته وحتى على مصداقية أقواله وتصرفاته التي تبدو إلى الآن مبشّرة لمناصريه وموضع ترقّب للمتربصين به الذين لم يتح لهم الوقت بعد الفرصة الكافية لتشويه صورته مع السعي لإفشال تجربته أو الانقلاب عليه.

السر في نجاح أي حاكم لا يكمن في هالة الإعلام المحيطة به، بل في أدائه على أرض الواقع، والمتمثل تحديداً بقدرته على بناء دولة مؤسسات، لا دولة فرد دكتاتور أو ميدان سلطة جائرة! والتاريخ لم ولن يغفر خطيئة تمجيد الأشخاص، وتحويلهم إلى رموز مقدسة لا تُمس، وفي السياق يبرز من التاريخ العربي والإسلامي، البعيد والقريب، بعض الأمثلة على عواقب تمجيد القادة.

في عصر الفاطميين ساهم المستفيدون من الخليفة الحاكم بأمر الله بتعزيز قناعته وتعميم صورته بأنه «الإله» على الأرض، وهذا ما أدى إلى فوضى دينية وسياسية عارمة، وفي القرن العشرين، رأينا كيف أجبر الناس على تمجيد حافظ الأسد، ومعمّر القذافي، وصدام حسين لتعزيز حكمهم الدكتاتوري الذي أنهك شعوبهم وبلادهم.

وليس بعيدًا عن ذلك، أظهرت تجربة حكم الإخوان المسلمين في مصر كيف أن الخطاب السياسي الحاد، الذي حمل بعض ملامح الإقصائية التي تعزى لحماسة تسلم الحكم بعد سنين من القمع، وبعض ملامح الانعزالية المتمثلة بمخاطبة «الأهل والعشيرة»، وأداء الإعلام الموالي الذي افتقر إلى المهنية والقدرة على بناء الثقة مع الشعب، أدى إلى استعداء بعض أطياف المجتمع، وتعميق الانقسامات السياسية، ونتج عنه ازدياد الغضب الشعبي في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، وانتهى بإسقاط حكمهم في 30 يونيو 2013 بتدخل الجيش المصري.

التحديات أمام الشرع

الواقع السوري بعد الأسد يحمل في طياته تعقيدات هائلة، تبدأ عند تشابك المصالح الدولية، ولا تنتهي عند أولوية المصالحة الوطنية، وحكمة التعامل مع الفصائل المسلحة، وجهود إعادة الإعمار.

الشرع، بما قد يكون لديه من دعم خارجي وداخلي وبما قد يتميز به من مواصفات لا نستطيع أن نحكم عليها بعد، قد يكون الرجل المناسب للمرحلة، ولكن التحدي الأكبر أمامه هو بناء نظام سياسي قائم على الشفافية والمساءلة، لا على تمجيد الآخرين لشخصه ومن ثم تبرير ما قد يقع به من أخطاء، والتصفيق له في كل حال من الأداء!

إذا كانت هناك دروس مستفادة من العقود الماضية، فهي أن القيادة الفردية والفئوية مهما بدت قوية ومخلصة، لا يمكن أن تكون بديلاً عن نظام ديموقراطي يشرك الجميع في صنع القرار.

الخطر كل الخطر أن يُجعل من الشرع «أسدا» آخر وربما من ورق! وأن يقع مؤيدوه الكثر في فخ التمجيد المبالغ فيه... لكن الرهان في هذا الشأن على وعي المجتمع السوري المليء بالطاقات وأصحاب الفكر المستنير، الأمر الذي يضاف إلى الدلائل الإيجابية التي تتبدّى من الخطاب الهادئ الذي تبناه الشرع منذ بداية جلوسه على الكرسي الرئيسي في «قصر الشعب» الى الآن.

تاريخ سورية الجديدة يُكتب الآن، فعسى ألا تشوّه صفحاته ببقع سوداء ولا بأخطاء مميتة.

* كاتب ومستشار قانوني